الأخلاق الإسلامية – مصدرها
ما هو مصدر الأخلاق في الإسلام؟
والجواب:
أنه في مجال الأخلاق الإسلامية ينبغي- على ما يقول الأستاذ الدكتور حامد طاهر أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة ونائب رئيسها سابقًا- أن تتجه الدراسات إلى استخلاص عناصر الفكر الأخلاقي ونـماذجه العملية من القرآن الكريم، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرة السلف الصالح، وتجارب بعض الشخصيات المتميزة في تاريخ الإسلام، من أمثال عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، والحارث المحاسبي، وأحمد بن حنبل، والغزالي، وابن حزم، وكذلك من كتابات الـمفكرين الذين غلب عليهم طابع الإصلاح الاجتماعي من أمثال الجاحظ وابن الجوزي والسبكي والراغب الأصفهاني.
إن الأخلاق الإسلامية تضرب بجذورها في صميم الدين الإسلامي، وهي المجال الخصب الذي يمكن للباحث أن يستخلص منه خصائص الشخصية الإسلامية، كما تحددت نظريًّا، وتحققت في الواقع العملي، وهذا الجانب الأخير على درجة كبيرة من الأهمية، نظرًا لدوره في استمرار نشر الإسلام خارج حدوده التي توقفت عندها الفتوحات العسكرية، وبعد أن تقلص نفوذ الدولة الإسلامية نفسها. ومن ثم فإننا لا نميل إلى إقحام النظريات الأخلاقية لدى الغربيين في تشكيل علم الأخلاق الإسلامي بحيث يصبح هذا العلم صورة طبق الأصل من نظيره الغربي، لأن مقومات علم الأخلاق الإسلامي تعتمد على أسس واقعية، أي متحققة بالفعل في حياة الأشخاص، كما تلعب فيه التجربة الذاتية دورًا كبيرًا، ولا مانع بعد ذلك من المقارنة الضرورية بالمذاهب الأخلاقية في الغرب، مما يساعد على تقدم البحث العلمي، وتوسيع آفاق البحث. وفي إطار هذا التصور فإن كتاب تـهذيب الأخلاق لمسكويه- الذي يقدمه كثير من الباحثين على أنه ممثل لعلم الأخلاق الإسلامي - ليس في الحقيقة هو المعبر عن الفكر الأخلاقي في الإسلام، فما فيه إنـما هو صورة قريبة جدًّا من الأخلاق الإغريقية وخاصة لدى أرسطو، ولا بد من توجيه الدراسات في علم الأخلاق الإسلامي وجهة أخرى تنبع من النصوص الأصيلة فيه، وترتبط بالشخصيات الحقيقية في مجاله.
وأهم الأسس التي قامت عليها الدعوة المحمدية -فيما يذكر المرحوم الأستاذ الدكتور محمد ضياء الدين الكردي أستاذ ورئيس قسم العقيدة الإسلامية والفلسفة بالأزهر الشريف- هي تقوية ودعم الجانب الخلقي، لئلا يـميل الإنسان مع هواه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنـما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» [أخرجه الحاكم 4221 ، والبيهقي 20571 عن أبى هريرة]، فالأخلاق الإسلامية هي المثل الأعلى الذي يجب أن يحتذيه الفرد، ويحاول تطبيقه ليحقق الأمن لحياته، والسعادة لـمجتمعه.
وإذا كانت الأخلاق الإسلامية نابعة من مصادر الإسلام الأصيلة، فمعنى هذا أن لها حقيقة ثابتة، وأنـها معيارية، وذلك على خلاف ما ذهب إليه جماعة من الفلاسفة أمثال مونتاني وبسكال من أنه لا توجد حقيقة خلقية، وأن الأخلاق دائمة التغير والاختلاف في البلد الواحد من عصر إلى عصر، ومن بلد إلى آخر.
إلا أن أكثر علماء الأخلاق من القدامى والمحدثين -كما يقول الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور أستاذ ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية بدار العلوم سابقًا- على أنه علم معياري حتى إنه ليمكن القول بوجود ما يشبه الإجماع بينهم على ذلك، ومعنى أنه معياري أنه يسعى إلى الكشف عن المثل الأعلى للسلوك الإنساني، ويضع المفاهيم التي تحدد ما ينبغي أن يكون عليه ذلك السلوك.
وسواء أكان علم الأخلاق معياريًّا أو وصفيًّا فإنه يقوم بوظيفة مهمة في دراسة الأخلاق على نحو يساعدنا على تحقيق فهم أفضل للسلوك الإنساني، ويعرفنا بالبواعث والدوافع التي تدفعنا إلى السلوك بطريقة معينة دون سواها، كما يزودنا بحصيلة كبيرة من الخبرة والتجربة التي تتجلَّى فيما قدمه علماء الأخلاق من أفكار وآراء تتعلق بطبيعة الفعل الخلقي وعناصره ومصادره وغاياته، كما يمكن الإفادة مما نجده لدى بعض علماء الأخلاق من مناهج أخلاقية لتعديل السلوك واستقامته ومقاومة بعض الأمراض الخلقية التي يمكن أن تتصف بـها النفس، ويظهر هذا بوضوح عند بعض علماء الأخلاق من الصوفية على النحو الذي نراه لدى الحارث بن أسد المحاسبي في كتابه (الرعاية لحقوق الله)، ولدى الغزالي فى (الإحياء) حين يتحدث عن بعض الأمراض النفسية والخلقية.
ومن جهة أخرى فقد كان الطابع الخلقي بارزًا في وصايا الإسلام العامة -كما يقول أ/د مدكور- ولذلك كان الناس حين تعرض عليهم هذه الوصايا لا يـملكون أنفسهم من الاعتراف بسمو دعوته {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90].
ويربط القرآن الكريم ربطًا مباشرًا بين القيم الأخلاقية وبين العقيدة الإسلامية والشريعة وبين السلوك العملي في الحياة مؤكدًا أن هذه هي حقيقة البر، وليس الطقوس الظاهرة {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ}[البقرة:177].
فيمكن القول بأن المعنى الأخلاقي كامن في عقائد الإسلام وتشريعاته، فهي جميعًا تبتغي تـهذيب النفس وإصلاح الـمجتمع والرقي بالأخلاق.
المعنى الأخلاقي في العقيدة والشريعة الإسلامية: العلاقة وثيقة بين الإيـمان بالله ربًّا وخالقًا وإلـهًا معبودًا وبين الأخلاق، حيث يورث الإيـمان به المراقبة له والخشية منه، والحياء والثقة به، والتوكل عليه والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر على نعمائه، وهكذا تكون العقيدة الإسلامية في الإيـمان بالله مصدرًا مباشرًا وأساسيًّا للأخلاق في الإسلام.
وأما الإيمان باليوم الآخر فإن من شأنه أن يدفع الإنسان إلى الامتثال لأوامر الله وإلى التخلق بأخلاق الإسلام، لأن الله سيجمع الخلائق بين يديه ليحاسبهم على ما قدمت أيديهم، ومن هنا سنجد مجموعة من الأخلاق الرفيعة تستمد مصدرها من الإيـمان باليوم الآخر كعقيدة، بل إننا إذا تأملنا يمكن أن نرجع كافة الأخلاق الحسنة إلى العقيدة الإسلامية.
وليس المعنى الأخلاقي بعيد الصلة عن العبادات أيضًا، وقد قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}[العنكبوت:45]
وكذلك الزكاة طهرة لصاحبها من رذائل الشح والبخل {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[التوبة:103].
وأما الصيام فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم قبولَه بترك الأخلاق الذميمة: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [أخرجه البخاري 1804 عن أبى هريرة].
وأما الحج فقد أوصى الله تعالى قاصده بأن يكف لسانه عن الفحش {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}[البقرة:197].
ولم تكن الـمعاملات في الإسلام بعيدة عن ملاحظة الجانب الأخلاقي، فقد دعا صلى الله عليه وسلم إلى السماحة في البيع والشراء، والأمانة وعدم الغش، ونـهى عن تطفيف الميزان...، كما تأتي الحدود لتمثل عنصر الردع للذين يخرجون عن عقائد الدين وقيمه وشريعته، ولتكون سياجًا يحمي أهل الحق من أهل الباطل، ولتحفظ على الناس دينهم وأخلاقهم وأعراضهم وأموالهم.
وهكذا تتغلغل الأخلاق في بناء الإسلام كله، ولذلك كان طبيعيًّا أن ترتبط درجة الأخلاق بدرجة الإيـمان فكلما تأصل الإيـمان في القلب ورسخ فيه تأصلت الأخلاق ورسخت، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» [أخرجه أبو داود 4682 ، والترمذي 1162 وقال حسن صحيح عن أبي هريرة].
فالنَّاظِرُ الْمُسْتَقْصِي في القرآن الكريم والسنة الشريفة يتضح له أن الأخلاق تَسْرِي في كل جوانب التشريعات الإسلامية، ويمكن أن نجدها في كل مجال من مجالاتـها، فهي ملحوظة في الزواج والعشرة، والقرابة والصحبة والجوار، والبيع والشراء، ومراعاة حقوق الضعفاء والـمساكين، بل إنـها ملحوظة عند تعذر استمرار الحياة الزوجية، وهي مطلوبة حتى مع الـمخالفين، وفي الجهاد مع الأعداء، وفي التعامل مع الحيوان، وقد ورد في كل ذلك آيات قرآنية كريـمة، وأحاديث نبوية شريفة.
وكل ذلك يكشف عن أن الـمصدر الأساسي للأخلاق في الإسلام هو القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وأن الإسلام عقيدة وشريعة جميعًا يـمثلان مع الجانب الأخلاقي والقيمي منظومة واحدة.
المصدر:
1- أ/د حامد طاهر، مدخل إلى علم الـمنهج، القاهرة: د ن، د ت، (ص 133-134).
2- أ/د محمد ضياء الدين الكردي، الأخلاق الإسلامية والصوفية، القاهرة: مط السعادة، 1409 هـ / 1989م، (ص 3، 15-16) .
3- أ/د عبد الحميد مدكور، دراسات فى علم الأخلاق، القاهرة: دار الهاني، 1426 هـ/ 2005م، (ص 29-30، 107 - 112).
No comments:
Post a Comment