تلقين المحتضر والميت
س : ما حكم التلقين، ومتى يكون، وهل له دليل، أفتونا مأجورين ؟
الجواب
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد، فيتغير حال الإنسان إذا حان أجله، ويكون في حال صعب يحتاج لمن يطمئنه، ويحتاج لمن يبشره برحمة الله. ومما يحتاجه العبد في هذا الحال التلقين.(1)
والتلقين على قسمين:
الأول: تلقين المحتضر:
يُسَنُّ أن يُلَقَّن المحتضر الشهادتين من غير أمر له بهما، ومن غير إكثار؛ وذلك لتكون آخر كلامه، فيحصل ما وُعِد من البُشْرَى بدخول الجنة؛ وطرد الشياطين الذين يحضرونه؛ لإفساد عقيدته وتبديلها، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: « لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ».(2) قال النووي في شرح الحديث: « معناه مَنْ حضره الموت، والمراد: ذكِّرُوه لا إله إلا الله؛ لتكون آخر كلامه، كما في الحديث: « مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ »(3)، والأمر بهذا التلقين أمر ندب، وأجمع العلماء على هذا التلقين، وكرهوا الإكثار عليه والموالاة؛ لئلا يضجر بضيق حاله، وشِدَّة كربه، فيكره ذلك بقلبه، ويتكلَّم بما لا يليق. قالوا: وإذا قاله مرَّة لا يُكَرَّر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر، فيُعَاد التعريض به؛ ليكون آخر كلامه، ويتضمن الحديث الحضور عند المحتضر؛ لتذكيره؛ وتأنيسه؛ وإغماض عينيه؛ والقيام بحقوقه، وهذا مجمع عليه».(4)
أما إذا مات المسلم ولم يُلقَّن الشهادة، فلا شيء في هذا، ولا يدلُّ هذا على أنه ليس من أهل الخير، فمن كان في حياته مستقيمًا على دين الله وشرعه، ومات على ذلك يُرْجَى له الخير، ويُظَنُّ به ذلك - إن شاء الله تعالى - وخصوصًا إذا كان مشهودًا له بالخير من قِبَل الجميع، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما مرَّت عليه جنازة وأثنى الناس عليها خيرًا قال: «من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة ».(5)
الثاني: تلقين الميت عقب دفنه:
تلقين الميت عقب الدفن استحبَّه جمهور الفقهاء، مستدلين بما رواه الطبراني عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أنه قال: إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا - صلى الله عليه وسلم - أن نصنع بموتانا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا مات أحدٌ من إخوانكم فسوَّيتم التُّرَاب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يستوي قاعدًا، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون. فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا، وبالقرآن إمامًا، فإن منكرًا ونكيرًا يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه فيقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لُقِّن حجته، فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف أمَّه، قال عليه الصلاة والسلام: « ينسبه إلى أمه حواء، يا فلان ابن حواء ».(6)
قال النووي: قال جماعات من أصحابنا: يُستحبُّ تلقين الميت عقب دفنه، فيجلس عند رأسه إنسان ويقول: ... ثم ذكر الحديث، ثم قال: فهذا التلقين عندهم مُسْتَحبٌّ، وممن نصَّ على استحبابه القاضي حسين، والمتولي، والشيخ نصر المقدسي، والرافعي، وغيرهم. ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقا، وسُئِل الشيخ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله – عنه، فقال: التلقين هو الذي نختاره ونعمل به، قال: وروينا فيه حديثًا من حديث أبي أمامة ليس إسناده بالقائم، لكن اعتضد بشواهد، وبعمل أهل الشام قديما، هذا كلام أبي عمرو.
قلت: حديث أبي أمامة رواه أبو القاسم الطبراني في معجمه بإسناد ضعيف، ولفظه: ... ثم ذكر الحديث، وقال: قلت فهذا الحديث وإن كان ضعيفًا فيستأنس به. وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب، وقد اعتضد بشواهد من الأحاديث كحديث : « واسألوا له التثبيت » ووصية عمرو بن العاص وهما صحيحان سبق بيانهما قريبًا، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا في زمن من يقتدى به وإلى الآن، وهذا التلقين إنما هو في حق المكلف الميت، أما الصبي فلا يُلَقَّن. والله أعلم.(7)
وقد سُئِل ابن تيمية عن تلقين الميت في قبره بعد الفراغ من دفنه هل صحَّ فيه حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن صحابته؟ وهل إذا لم يكن فيه شيء يجوز فعله ؟ أم لا؟
أجاب: هذا التلقين المذكور قد نُقِل عن طائفة من الصحابة أنهم أمروا به، كأبي أمامة الباهلي، وغيره، وروي فيه حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه مما لا يحكم بصحَّته؛ ولم يكن كثير من الصحابة يفعل ذلك، فلهذا قال الإمام أحمد وغيره من العلماء: إن هذا التلقين لا بأس به، فرخَّصوا فيه، ولم يأمروا به. واستحبَّه طائفة من أصحاب الشافعي، وأحمد، وكرهه طائفة من العلماء من أصحاب مالك، وغيرهم.
والذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقوم على قبر الرجل من أصحابه إذا دفن، ويقول : «سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ»، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «لَقِّنُوا أَمْوَاتَكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» فتلقين المحتضر سُنَّة مأمور بها. وقد ثبت أن المقبور يُسْأل، ويُمْتَحن، وأنه يُؤْمَر بالدعاء له؛ فلهذا قيل: إن التلقين ينفعه، فإن الميت يسمع النداء. كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :«إنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ»، وأنه قال : «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ»، وأنه أمرنا بالسلام على الموتى . فقال : «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ»(8).
وعليه فإن تلقين المحتضر، والميت ثابت ولا شيء فيه، وعليه فيسن ويجوز للمسلم أن يُلَقِّن أخاه المسلم أو أخته المسلمة عند الاحتضار وعقب الدفن، وهذا كله ينفعه إن شاء الله.
والله تعالى أعلى وأعلم.
المصادر والمراجع:
1 سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني (ابن ماجه)، دار الفكر – بيروت
2 سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الفكر – بيروت
3 سنن النسائي (المجتبى)، أحمد بن شعيب النسائي، مكتبة المطبوعات الإسلامية – دمشق
4 صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير - دمشق
5 صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، دار إحياء التراث العربي- القاهرة
6 شرح صحيح مسلم، يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث - القاهرة
7 المعجم الكبير، سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة
8 مجمع الزوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب العربي – بيروت
9 المجموع، يحيى بن شرف النووي، المطبعة المنيرية – القاهرة
25.
No comments:
Post a Comment