Thursday, July 30, 2009

Utusan Minta Maaf

KUALA LUMPUR, 29 Julai: Akhbar Utusan Malaysia hari ini diserbu oleh pelbagai pihak khasnya para penyokong Pakatan Rakyat yang selama ini memboikot akhbar milik Umno itu. Turut diserbu adalah laman web utusan, namun apa yang mereka cari tidak ditemui kerana ia hanya disiarkan dalam akhbar utusan versi cetak sahaja. (Utusan Online telah memasukkan juga permohonan maaf itu pada sebelah petangnya.) Yang dicari adalah permohonan maaf Utusan kepada Mursyidul Am PAS, Datuk Nik Abdul Aziz Nik Mat yang disiarkan di muka depan akhbar itu.Ia disiarkan di penjuru kanan atas muka depan akhbar itu dengan tajuk "Permohonan Maaf". Permohonan maaf itu dibuat ekoran laporan Utusan sebelum ini yang mendakwa Nik Aziz berkata, "Nasihat saya wajib didengar" menjelang muktamar PAS yang lalu. Ekoran itu Nik Aziz memfailkan samannya terhadap akhbar itu. PERMOHONAN MAAF Utusan Malaysia memohon maaf kepada YAB Datuk Haji Nik Abdul Aziz bin Haji Nik Mat, Menteri Besar Kelantan di atas kesilapan laporan mengenai kenyataan beliau yang disiarkan dalam Utusan Malaysia pada 15 Jun 2009. YAB Datuk Haji Nik Abdul Aziz sebenarnya bermaksud bahawa "nasihat beliau tidak semestinya didengar" ketika mengulas mengenai cadangan kerajaan perpaduan pada sidang media itu. Oleh itu, tajuk atas sebelah kiri, muka surat hadapan Utusan Malaysia pada 15 Jun 2009 iaitu Nasihat saya mesti didengar adalah salah serta bukan menggambarkan apa yang dimaksudkan oleh YAB Datuk Haji Nik Abdul Aziz pada sidang media itu. Begitu juga fakta berhubung perkara yang sama pada berita penuh mengenai kenyataan beliau itu pada muka surat 7, Utusan Malaysia keluaran 15 Jun 2009, adalah salah. Utusan Malaysia dengan ini menarik balik dengan sepenuhnya kesilapan tersebut dan secara tulus ikhlas memohon maaf kepada YAB Datuk Haji Nik Abdul Aziz di atas kesilapan yang tidak disengajakan itu dan atas apa jua kedukaan atau pengaiban yang mungkin diakibatkan kepada YAB Datuk Haji Nik Abdul Aziz daripada kesilapan tersebut.

Wednesday, July 22, 2009

Sheikh Atiah Saqar

فقيد الإسلام والعلم الشيخ عطية صقر

في ظل غبش الفكر واضمحلال الرؤى، وطنطنة المنتسبين للعلم زورا وبهتانا، تعظم مصيبة الأمة في موت عالم صاحب فهم قبل أن يكون صاحب علم، صاحب فقه قبل أن يكون حافظا، وهكذا كان فقيد العلم الشيخ عطية صقر رحمه الل

العالم الفقيه، والأزهري صاحب النظرة الوسطية التي لا تفريط فيها ولا إفراط، والداعية الذي يدرك متى يشدد، ومتى يرخص، عالم بمقاصد الشريعة العليا، وقاف على حدود الله عز وجل.
إنه العالم الذي يجمع ولا يفرق، لكنه لا يقبل انحرافا عن شريعة الله، ولا تجاوزا لحدوده، يقف للعلمانيين بالمرصاد، ويعلن براءة الإسلام بشموليته ورحابة أفقه من أفكارهم.

وفي المقابل يظهر وجه الإسلام الجميل بعيدا عن تعصب فريق نصب نفسه بغير حق متحدثا باسمه، فيخرج أمثاله -رحمه الله- ليجلوا الحقيقة وليعلنوا أن الإسلام أرحب وأوسع من تلك النظرات الضيقة، وأن الفقه الإسلامي فيه من المرونة والسعة ما يسمح بتجاوز تلك الخلافات الضيقة.

تقدير المذاهب الفقهية

وهذه من السمات البارزة لمدرسة الشيخ – رحمه الله -

والمفتقدة في جمهرة كبيرة ممن يتصدون للفتوى، حيث تراهم يفتون وكأنهم أصحاب الرأي الأوحد في المسألة، يغضون الطرف عن مدارس ومذاهب لها اعتبارها فيما يتعرضون له، وهو ما يحدث تعصبا أعمى عند طلاب العلم الذين يأخذون عنهم، فتنشأ العداوات بين أصحاب المذاهب المختلفة.

لذلك فقد كان الشيخ رحمه الله يقدر تراث الأمة العلمي أيما تقدير، ويحترم شتى المدارس الفقهية احتراما شديدا، ولهذا ما كان فضيلته يتعرض لبيان أي حكم شرعي إلا ويبدأ ببيان آراء فقهاء الأمة في موضوع السؤال، وفي كثير من الأحيان يرجح فضيلته ما يطمئن إليه قلبه، وما يقوده إليه الدليل، مثلما حدث في فتواه عن حكم مصافحة الرجال للنساء، إذ قال فضيلته: إن المصافحة حرام؛ لأن لمس الرجل ليد المرأة يوقظ الغريزة، وهو ما نهى الإسلام عنه، ولقد أحدثت تلك الفتوى رد فعل عنيفا في بعض الأوساط التي تعتبر مثل هذه التصرفات من قبيل المدنية والتحضر، وكان لردة الفعل هذه أثرها على توقف برنامج الشيخ التلفزيوني الذي أفتى فيه بتلك الفتوى، حيث منع بعدها!

وأحيانا كان فضيلته يخير السائل بين أمرين أو أكثر من الفتاوى التي يرى أنها صحيحة واستقر عليها الفقه الإسلامي، ولعل بعض الناس كان يستغرب مثل هذا الصنيع لأنه يرى أن ما يشفي غليل السائل أن يأخذ جوابا مختصرا وشافيا، إلا أن هذا الصنيع يحمد للشيخ، فهو يحمل من أسس التربية والتعليم الكثير من المعاني، إذ ينبغي على من يكون في مركز الفتوى أولا أن يكون محيطا بكل ما قيل في القضية المطروحة للنقاش أو موضوع السؤال، ثم عليه ثانيا التأدب حتى مع المخالفين، ولم يكن من دأب الشيخ تسفيه رأي عالم قامت عليه بينة.

موقفه من الشيعة

ولعله في هذا الإطار يأتي موقف الشيخ من الشيعة، حيث لا يمكن لأي باحث يحترم تاريخ الأمة – والشيخ منهم بالطبع - إلا أن يقر بوقوع الخلافات الفقهية، وأن يقر كذلك بتأثير تلك الخلافات على مسار الأمة في الواقع العملي، ولعل من أشد تلك الخلافات أثرا انقسام الأمة إلى شيعة وسنة، وعبر التاريخ رأينا هذا الخلاف، وقد أصبح أصلا لعداوات شديدة ومعارك دامية، وعهدنا عبر تاريخ الأمة الإسلامية الطويل وجود نفر من كلا الفريقين يبحث عن أسوأ ما في الآخر ليدمغه به، وكأنه صفة غالبة.

إلا أن هذا لم يمنع من ظهور أطراف في كل من الجانبين -السني والشيعي- تتقي الله في الأمانة العلمية التي تحملها، وفي المسلمين الذين وثقوا في رشادهم، فعمد هؤلاء إلى تحرير مواطن الخلاف ليظل الخلاف محصورا في أضيق الحدود، وترتب على ذلك تقارب الكثير من المواقف، وتحسين كثير من العلاقات، وزوال الكثير من الضباب الذي أحاط بالعلاقة بينهما.

وكان من هؤلاء فقيدنا فضيلة الشيخ عطية صقر رحمه الله، وكان هذا المسلك متوافقا مع منهج الشيخ الذي استخدمه في كافة مواقفه العلمية والعملية، وهو ألا يأخذ الخلاف طابعا شخصيا، وألا يسمح بأن يتجاوز الأمر حده، بل يعطى ما يتناسب مع قدره، وأخيرا فإنه يسعنا ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لكن نقطة نظام يجب أن تترسخ في وجدان المتلقي، فليس معنى التقارب الذي دعا إليه الشيخ أو يدعو إليه إخوانه من علماء الأمة أن يتم غض الطرف عن انحرافات عقدية، أو تجاوزات لا تتفق وأصول الشريعة العامة، إنما المقصد هو الدعوة للتقارب البناء على أسس العقيدة الصحيحة، ولا مانع من وجود مناطق خلاف محدودة فيما يحتمل الخلاف. فتوى الفوائد البنكية

قامت الدنيا ولم تقعد حينما أصدرت دار الإفتاء المصرية في شهر سبتمبر 1989 فتوى تتعلق بالفوائد الممنوحة على ودائع الأفراد والشركات لدى البنوك، واتجه الرأي بموجب تلك الفتوى إلى إباحة تلك الفوائد، وثارت ثائرة العلماء وقتها، وكانت مساجلات وحدثت مشاحنات بين المبيحين والمحرمين، إلا أن لجنة الفتوى بالأزهر الشريف كان من رأيها عدم إباحة تلك الفوائد، وخلال فترة رئاسة الشيخ لتلك اللجنة ظل هذا هو رأي لجنة الفتوى، وعلى الرغم من مخالفة هذا الرأي للتوجه الذي اختارته دار الإفتاء فإنه لم يعرف عن الشيخ رحمه الله أنه انجرف في عداوة مع أحد، بل الثابت أن فضيلته لم يكن يأخذ الأمر على محمل شخصي في يوم من الأيام.

النصح للعلماء

من المعهود وفي ظل هذا الانتشار الإعلامي الهائل ومع كثرة القنوات الفضائية التي تتبنى منهج الفتوى وتستقطب لها الكثير من الأعلام، من المنطقي أن تكون هناك خلافات فقهية، مثل هذه الخلافات بالطريقة التي تعرض بها تحدث الكثير من البلبلة بين الناس، هذا في ظل الخلافات التي لها أصل فقهي، إلا أن هناك من يختار الشاذ من الفتاوى وكأنما يتصيد مواطن الخلاف الشاذ في الفقه الإسلامي، وهناك أيضا من استحدث فتاوى لم يسمع بها أحد من قبل، ومن أشهر ذلك ما قيل في النقاب عبر وسائل الإعلام، ومن أنه ليس من الإسلام بل هو دخيل على الدين كما صور بعضهم، ولقد تردد أن الشيخ رحمه الله قد اختص بعض القائلين بهذا الرأي بنصيحة هي من قبيل العتب الشديد، ومثل هذا الموقف عهد عن الشيخ رحمه الله في كثير من المرات التي ثارت فيها خلافات حادة أحدثت بلبلة في الشارع الإسلامي.

رحم الله الشيخ رحمة واسعة وعوض الأمة عنه خيرا،،، سيرة ذاتية

ولد الشيخ في يوم الأحد 4محرم 1333هـ الموافق 22 نوفمبر 1914 في قرية بهناباي مركز الزقازيق بمحافظة الشرقية، حفظ القرآن الكريم في كتاب القرية وعمره 9 سنوات، ثم التحق بالمدرسة الأولية، والتحق بعدها بمعهد الزقازيق الديني عام 1928، ثم التحق بكلية أصول الدين وحصل منها على الشهادة العالمية سنة 1941، وحصل على العالمية مع إجازة الدعوة والإرشاد سنة 1943، وكان ترتيبه الأول.

بدأ حياته خطيبا في مسجد عبد الكريم الأحمدي بباب الشعرية في يوم الإثنين 15 من شهر شعبان سنة 1362هـ الموافق 16 أغسطس عام 1943، ثم عين واعظا بالأزهر بعد ذلك بعامين سنة 1945 حتى رقي إلى مفتش ومراقب عام بالوعظ.

عين سفيرا للأزهر في اللجنة العليا للعلاقات الخارجية بوزارة الخارجية، واللجنة الوزارية للتثقيف الصحي، ومترجما بمراقبة البحوث والثقافة، ووكيلا لإدارة البعوث، ومدرسا بالقسم العالي بالأزهر.

عين عضوا بمجمع البحوث الإسلامية ولجنة الفتوى بالأزهر ثم رئيسا لها، وعضوا بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وكان عضوا بمجلس الشعب عن دائرة شبرا، وذلك في سنة 1984.تعددت رحلات الشيخ رحمه الله لمختلف البلدان لنشر الدعوة الإسلامية، فسافر إلى إيران والكويت وإندونيسيا وليبيا والجزائر والبحرين والسنغال ونيجيريا وبنين والولايات المتحدة الأمريكية وباكستان وباريس ولندن.للشيخ مؤلفات علمية مكتوبة تزيد على 31 مؤلفا علميا، يأتي على رأسها كتاب (الدعوة الإسلامية دعوة علمية)، وهو الكتاب الفائز بجائزة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وكتاب (الأسـرة تحت رعاية الإسلام) ويقـع في ستة مجلدات، وهناك كتب أخرى منها: كتاب (دراسات إسلامية لأهم القضايا المعاصرة)، وكتاب (الدين العالمي ومنهج الدعوة إليه)، وكـتاب ( العـمل والعـمال في نظر الإسلام)، وكـتاب (الإسلام ومشاكل الحياة)، وكتاب ( الحجاب وعمل المرأة )، وكتاب ( البابية والبهائية تاريخا ومذهبا ) ، وكتاب (فن إلقاء الموعظة)، وكتاب (بيان للناس عن موقف الإسلام من التيارات الحديثة)، وكتاب (أوضح الكلام في الفتاوى والأحكام) وهو في عدة أجزاء.

وللشيخ إنتاج علمي مسموع يزيد كثيرا في الكم على ذلك التراث المقروء، فلقد قدم فضيلته للأمة الإسلامية عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية الكثير من الإنتاج العلمي في كافة فروع الشريعة، ولا يزال كثير من رواد الشبكة الإلكترونية يقبلون بنهم شديد على تراث الشيخ الصوتي، وبخاصة سلسلة فتاوى وأحكام في فقه العبادات، وسلسلة فقه الأسرة المسلمة، وقل أن تجد موقعا يعرض فتاوى إلا وللشيخ أثر واضح فيه، كما أن فضيلته حل ضيفا دائما ومرغوبا فيه على العديد من برامج الفتاوى عبر شبكة القرآن الكريم.

Solehuddin Al-Ayyubi

صلاح الدين الأيوبي

عرف في كتب التاريخ في الشرق والغرب بأنه فارس نبيل وبطل شجاع وقائد من أفضل من عرفتهم البشرية وشهد بأخلاقه أعداؤه من الصليبيين قبل أصدقائه وكاتبوا سيرته، إنه نموذج فذ لشخصية عملاقة من صنع الإسلام، إنه البطل صلاح الدين الأيوبي محرر القدس من الصليبيين وبطل معركة حطين.

فإلى سيرته ومواقف من حياته كما يرويها صاحب وفيات الأعيان أحمد بن خلكان، والقاضي بهاء الدين بن شداد صاحب كتاب "سيرة صلاح الدين" وبن الأثير في كتابه "الكامل".

نسبه ونشأته

هو أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي الملقب بالملك الناصر صلاح الدين.

اتفق أهل التاريخ على أن أباه وأهله من (دوين) وهي بلدة في آخر أذربيجان وأنهم أكراد روادية، والروادية بطن من الهذبانية، وهي قبيلة كبيرة من الأكراد.

يقول أحمد بن خلكان: قال لي رجل فقيه عارف بما يقول وهو من أهل دوين إن على باب دوين قرية يقال لها (أجدانقان) وجميع أهلها أكراد روادية وكان شاذي ـ جد صلاح الدين ـ قد أخذ ولديه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخرج بهما إلى بغداد ومن هناك نزلوا تكريت ومات شاذي بها وعلى قبره قبة داخل البلد.

ولد صلاح الدين سنة 532هـ بقلعة تكريت لما كان أبوه وعمه بها والظاهر أنهم ما أقاموا بها بعد ولادة صلاح الدين إلا مدة يسيرة، ولكنهم خرجوا من تكريت في بقية سنة 532هـ التي ولد فيها صلاح الدين أو في سنة ثلاث وثلاثين لأنهما أقاما عند عماد الدين زنكي بالموصل ثم لما حاصر دمشق وبعدها بعلبك وأخذها رتب فيها نجم الدين أيوب وذلك في أوائل سنة أربع وثلاثين.

يقول بن خلكان: أخبرني بعض أهل بيتهم وقد سألته هل تعرف متى خرجوا من تكريت فقال سمعت جماعة من أهلنا يقولون إنهم أخرجوا منها في الليلة التي ولد فيها صلاح الدين فتشاءموا به وتطيروا منه فقال بعضهم لعل فيه الخيرة وما تعلمون فكان كما قال والله أعلم.

ولم يزل صلاح الدين تحت كنف أبيه حتى ترعرع ولما ملك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي دمشق لازم نجم الدين أيوب خدمته وكذلك ولده صلاح الدين وكانت مخايل السعادة عليه لائحة والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة ونور الدين يرى له ويؤثره ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد.

صلاح الدين في مصر

هرب الوزير الفاطمي شاور من مصر من الوزير ضرغام بن عامر بن سوار الملقب فارس المسلمين اللخمي المنذري لما استولى على الدولة المصرية وقهره وأخذ مكانه في الوزارة كعادتهم في ذلك وقتل ولده الأكبر طي بن شاور فتوجه شاور إلى الشام مستغيثا بالملك العادل نور الدين بن زنكي وذلك في شهر رمضان 558هـ ودخل دمشق في الثالث والعشرين من ذي القعدة من السنة نفسها فوجه نور الدين معه الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي في جماعة من عسكره كان صلاح الدين في جملتهم في خدمة عمه وهو كاره للسفر معهم وكان لنور الدين في إرسال هذا الجيش هدفان:

أحدهما: قضاء حق شاور لكونه قصده ودخل عليه مستصرخا.

والثاني: أنه أراد استعلام أحوال مصر فإنه كان يبلغه أنها ضعيفة من جهة الجند وأحوالها في غاية الاختلال فقصد الكشف عن حقيقة ذلك.

وكان كثير الاعتماد على شيركوه لشجاعته ومعرفته وأمانته فانتدبه لذلك وجعل أسد الدين شيركوه ابن أخيه صلاح الدين مقدم عسكره وشاور معهم فخرجوا من دمشق في جمادى الأولى سنة 559هـ فدخلوا مصر واستولوا على الأمر في رجب من السنة نفسها.

ولما وصل أسد الدين وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها وقتلوا الضرغام وحصل لشاور مقصودة وعاد إلى منصبه وتمهدت قواعده واستمرت أموره غدر بأسد الدين شيركوه واستنجد بالإفرنج عليه فحاصروه في بلبيس، وكان أسد الدين قد شاهد البلاد وعرف أحوالها وأنها مملكة بغير رجال تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال فطمع فيها وعاد إلى الشام، وأقام أسد الدين بالشام مدة مفكرا في تدبير عودته إلى مصر محدثا نفسه بالملك لها مقررا قواعد ذلك مع نور الدين إلى سنة 562هـ

وبلغ نور الدين وأسد الدين مكاتبة الوزير الخائن شاور للفرنج وما تقرر بينهم فخافا على مصر أن يملكوها ويملكوا بطريقها جميع البلاد فتجهز أسد الدين وأنفذ معه نور الدين العساكر وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين، وكان وصول أسد الدين إلى البلاد مقارنا لوصول الإفرنج إليها واتفق شاور والمصريون بأسرهم والإفرنج على أسد الدين وجرت حروب كثيرة.

وتوجه صلاح الدين إلى الإسكندرية فاحتمى بها وحاصره الوزير شاور في جمادى الآخرة من سنة 562هـ ثم عاد أسد الدين من جهة الصعيد إلى بلبيس وتم الصلح بينه وبين المصريين وسيروا له صلاح الدين فساروا إلى الشام.

ثم إن أسد الدين عاد إلى مصر مرة ثالثة وكان سبب ذلك أن الإفرنج جمعوا فارسهم وراجلهم وخرجوا يريدون مصر ناكثين العهود مع المصريين وأسد الدين طمعا في البلاد فلما بلغ ذلك أسد الدين ونور الدين لم يسعهما الصبر فسارعا إلى مصر أما نور الدين فبالمال والرجال ولم يمكنه المسير بنفسه خوفا على البلاد من الإفرنج، وأما أسد الدين فبنفسه وماله وإخوته وأهله ورجاله

يقول بن شداد: لقد قال لي السلطان صلاح الدين قدس الله روحه كنت أكره الناس للخروج في هذه الدفعة وما خرجت مع عمي باختياري وهذا معنى قوله تعالى {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} (البقرة:216)

وكان شاور لما أحس بخروج الإفرنج إلى مصر سير إلى أسد الدين يستصرخه ويستنجده فخرج مسرعا وكان وصوله إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة 564هـ ولما علم الإفرنج بوصول أسد الدين إلى مصر على اتفاق بينه وبين أهلها رحلوا راجعين على أعقابهم ناكصين وأقام أسد الدين بها يتردد إليه شاور في الأحيان وكان وعدهم بمال في مقابل ما خسروه من النفقة فلم يوصل إليهم شيئا وعلم أسد الدين أن شاور يلعب به تارة وبالإفرنج أخرى،وتحقق أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور فأجمع رأيه على القبض عليه إذا خرج إليه، فقتله وأصبح أسد الدين وزيرا وذلك في سابع عشر ربيع الأول سنة 564هـ ودام آمرا وناهيا و صلاح الدين يباشر الأمور مقرراً لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته إلى الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة نفسها فمات أسد الدين.

وذكر المؤرخون أن أسد الدين لما مات استقرت الأمور بعده للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فبذل الأموال وملك قلوب الرجال وهانت عنده الدنيا فملكها وشكر نعمة الله تعالى عليه، وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص بقميص الجد والاجتهاد، استعدادا لمواجهات مستمرة مع الصليبيين من جهة ومع خزعبلات الدولة الفاطمية من جهة أخرى.

هجوم الإفرنج على مصر

ولما علم الإفرنج استقرار الأمر بمصر لصلاح الدين علموا أنه يملك بلادهم ويخرب ديارهم ويقلع آثارهم لما حدث له من القوة والملك واجتمع الإفرنج والروم جميعا وقصدوا الديار المصرية فقصدوا دمياط ومعهم آلات الحصار وما يحتاجون إليه من العدد، ولما رأى نور الدين ظهور الإفرنج ونزولهم على دمياط قصد شغلهم عنها فنزل على الكرك محاصرا لها، فقصده فرنج الساحل فرحل عنها وقصد لقاءهم فلم يقفوا له.

ولما بلغ صلاح الدين قصد الإفرنج دمياط استعد لهم بتجهيز الرجال وجمع الآلات إليها ووعدهم بالإمداد بالرجال إن نزلوا عليهم وبالغ في العطايا والهبات وكان وزيرا متحكما لا يرد أمره في شيء ثم نزل الإفرنج عليها واشتد زحفهم وقتالهم عليها وهو يشن عليهم الغارات من خارج والعسكر يقاتلهم من داخل ونصر الله تعالى المسلمين به وبحسن تدبيره فرحلوا عنها خائبين فأحرقت مناجيقهم ونهبت آلاتهم وقتل من رجالهم عدد كبير.

تأسيس الدولة الأيوبية

واستقرت الأمور لصلاح الدين ونقل أسرته ووالده نجم الدين أيوب إليها ليتم له السرور وتكون قصته مشابهة لقصة يوسف الصديق عليه السلام، ولم يزل صلاح الدين وزيرا حتى مات العاضد آخر الخلفاء الفاطميين 565هـ وبذلك انتهت الدولة الفاطمية وبدأت دولة بني أيوب (الدولة الأيوبية).

ولقب صلاح الدين بالملك الناصر وعاد إلى دار أسد الدين فأقام بها، وثبت قدم صلاح الدين ورسخ ملكه.

وأرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته فلم يجبه إلى ذلك وقال أخاف أن يخالف أحد منهم عليك فتفسد البلاد، ثم إن الإفرنج اجتمعوا ليسيروا إلى مصر فسير نور الدين العساكر وفيهم إخوة صلاح الدين منهم شمس الدولة توران شاه بن أيوب، وهو أكبر من صلاح الدين.

و ذكر ابن الأثير ما حدث من الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين باطنا فقال: وفي سنة 567هـ حدث ما أوجب نفرة نور الدين عن صلاح الدين وكان الحادث أن نور الدين أرسل إلى صلاح الدين يأمره بجمع العساكر المصرية والمسير بها إلى بلد الإفرنج والنزول على الكرك ومحاصرته ليجمع هو أيضا عساكره ويسير إليه ويجتمعا هناك على حرب الإفرنج والاستيلاء على بلادهم فبرز صلاح الدين من القاهرة في العشرين من المحرم وكتب إلى نور الدين يعرفه أن رحيله لا يتأخر وكان نور الدين قد جمع عساكره وتجهز وأقام ينتظر ورود الخبر من صلاح الدين برحيله ليرحل هو فلما أتاه الخبر بذلك رحل من دمشق عازما على قصد الكرك فوصل إليه وأقام ينتظر وصول صلاح الدين إليه فأرسل كتابه يعتذر فيه عن الوصول باختلال البلاد المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويين وأنهم عازمون على الوثوب بها وأنه يخاف عليها مع البعد عنها فعاد إليها فلم يقبل نور الدين عذره، وكان سبب تقاعده أن أصحابه وخواصه خوفوه من الاجتماع بنور الدين فحيث لم يمتثل أمر نور الدين شق ذلك عليه وعظم عنده وعزم على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها.

ووصل الخبر إلى صلاح الدين فجمع أهله وفيهم والده نجم الدين أيوب وخاله شهاب الدين الحارمي ومعهم سائر الأمراء وأعلمهم ما بلغه عن عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشيء فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين وقال إذا جاء قاتلناه وصددناه عن البلاد ووافقه غيره من أهله فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستعظمه وكان ذا رأي ومكر وعقل وقال لتقي الدين اقعد وسبه وقال لصلاح الدين أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك أتظن أن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا فقال لا فقال والله لو رأيت أنا وهذا خالك شهاب الدين نور الدين لم يمكنا إلا أن نترجل له ونقبل الأرض بين يديه ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا فإذا كنا نحن هكذا كيف يكون غيرنا وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر على الثبات على سرجه ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه وهذه البلاد له وقد أقامك فيها وإن أراد عزلك فأي حاجة له إلى المجيء يأمرك بكتاب مع نجاب حتى تقصد خدمته ويولي بلاده من يريد وقال للجماعة كلهم قوموا عنا ونحن مماليك نور الدين وعبيده يفعل بنا ما يريد فتفرقوا على هذا وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر.

ولما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له أنت جاهل قليل المعرفة تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على ما في نفسك فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه عن البلاد جعلك أهم الأمور إليه وأولاها بالقصد ولو قصدك لم تر معك أحدا من هذا العسكر وكانوا أسلموك إليه وأما الآن بعد هذا المجلس فسيكتبون إليه ويعرفونه قولي وتكتب أنت إليه وترسل في المعنى وتقول أي حاجة إلى قصدي يجبي نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك واستعمل ما هو أهم عنده والأيام تندرج والله في كل وقت في شأن والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب سكرنا لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل ففعل صلاح الدين ما أشار به والده فلما رأى نور الدين الأمر هكذا عدل عن قصده وكان الأمر كما قال نجم الدين أيوب وتوفي نور الدين ولم يقصده وهذا كان من أحسن الآراء وأجودها.

توسع الدولة الأيوبية

قال ابن شداد: لم يزل صلاح الدين على قدم بسط العدل ونشر الإحسان وإفاضة الإنعام على الناس إلى سنة 568هـ فعند ذلك خرج بالعسكر يريد بلاد الكرك والشوبك وإنما بدأ بها لأنها كانت أقرب إليه وكانت في الطريق تمنع من يقصد الديار المصرية وكان لا يمكن أن تعبر قافلة حتى يخرج هو بنفسه يعبرها فأراد توسيع الطريق وتسهيلها فحاصرها في هذه السنة وجرى بينه وبين الإفرنج وقعات وعاد ولم يظفر منها بشيء ولما عاد بلغه خبر وفاة والده نجم الدين أيوب قبل وصوله إليه.

ولما كانت سنة 569هـ رأى قوة عسكره وكثرة عدده وكان بلغه أن باليمن إنسانا استولى عليها وملك حصونها يسمى عبد النبي بن مهدي فسير أخاه توران شاه فقتله وأخذ البلاد منه وبلغ صلاح الدين أن إنسانا يقال له الكنز جمع بأسوان خلقا عظيما من السودان وزعم أنه يعيد الدولة المصرية وكان أهل مصر يؤثرون عودهم فانضافوا إلى الكنز، فجهز صلاح الدين إليه جيشا كثيفا وجعل مقدمه أخاه الملك العادل وساروا فالتقوا وهزموهم وذلك في السابع من صفر سنة 570هـ.

وكان نور الدين رحمه الله قد خلف ولده الملك الصالح إسماعيل وكان بدمشق عند وفاة أبيه ثم إن صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن ولده الملك الصالح صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض بأعباء الملك واختلفت الأحوال بالشام وكاتب شمس الدين ابن المقدم صلاح الدين فتجهز من مصر في جيش كثيف وترك بها من يحفظها وقصد دمشق مظهرا أنه يتولى مصالح الملك الصالح فدخلها في سنة 570هـ وتسلم قلعتها وكان أول دخوله دار أبيه، وهي الدار المعروفة بالشريف العقيقي، واجتمع الناس إليه وفرحوا به وأنفق في ذلك اليوم مالا جليلا وأظهر السرور بالدمشقيين وصعد القلعة وسار إلى حلب فنازل حمص وأخذ مدينتها في جمادى الأولى من السنة نفسها ولم يشتغل بقلعتها وتوجه إلى حلب ونازلها في يوم الجمعة آخر جمادى الأولى من السنة وهي المعركة الأولى.

ولما أحس سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي صاحب الموصل بما جرى علم أن صلاح الدين قد استفحل أمره وعظم شأنه وخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد واستقرت قدمه في الملك وتعدى الأمر إليه فأنفذ عسكرا وافرا وجيشا عظيما وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود وساروا يريدون لقاءه ليردوه عن البلاد فلما بلغ صلاح الدين ذلك رحل عن حلب في مستهل رجب من السنة عائدا إلى حماة ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها ووصل عز الدين مسعود إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه الملك الصالح بن نور الدين صاحب حلب يومئذ وخرجوا في جمع عظيم فلما عرف صلاح الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة وراسلهم وراسلوه واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه ورأوا أن ضرب المصاف معه ربما نالوا به غرضهم والقضاء يجر إلى أمور وهم بها لا يشعرون فتلاقوا فقضى الله تعالى أن هزموا بين يديه وأسر جماعة منهم فمن عليهم وذلك في تاسع شهر رمضان من سنة570 هـ عند قرون حماة ثم سار عقيب هزيمتهم ونزل على حلب وهي الدفعة الثانية فصالحوه على أخذ المعرة وكفر طاب وبارين ولما جرت هذه المعركة كان سيف الدين غازي يحاصر أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار وعزم على أخذها منه لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين وكان قد قارب أخذها فلما بلغه الخبر وأن عسكره انكسر خاف أن يبلغ أخاه عماد الدين الخبر فيشتد أمره ويقوى جأشه فراسله وصالحه ثم سار من وقته إلى نصيبين واهتم بجمع العساكر والإنفاق فيها وسار إلى البيرة وعبر الفرات وخيم على الجانب الشامي وراسل ابن عمه الصالح بن نور الدين صاحب حلب حتى تستقر له قاعدة يصل عليها ثم إنه وصل إلى حلب وخرج الملك الصالح إلى لقائه أقام على حلب مدة.

المواجهة مع الإفرنجة

في سنة 572هـ اسقرت الأمور بمصر والشام للدولة الأيوبية، وكان أخو صلاح الدين شمس الدولة توران شاه قد وصل إليه من اليمن فاستخلفه بدمشق ثم تأهب للغزاة من الإفرنجة، فخرج يطلب الساحل حتى وافى الإفرنج على الرملة وذلك في أوائل جمادى الأولى سنة 573هـ وكانت الهزيمة على المسلمين في ذلك اليوم، فلما انهزموا لم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه فطلبوا جهة الديار المصرية وضلوا في الطريق وتبددوا وأسر منهم جماعة منهم الفقيه عيسى الهكاري وكان ذلك وهنا عظيما جبره الله تعالى بمعركة حطين المشهورة.

أقام صلاح الدين بمصر حتى لم شعثه وشعث أصحابه من أثر هزيمة الرملة ثم بلغه تخبط الشام فعزم على العود إليه واهتم بالغزاة فوصله رسول "قليج أرسلان" صاحب الروم يلتمس الصلح ويتضرر من الأرمن فعزم على قصد بلاد ابن لاون ـ وهي بلاد سيس الفاصلة بين حلب والروم من جهة الساحل ـ لينصر قليج أرسلان عليه فتوجه إليه واستدعى عسكر حلب لأنه كان في الصلح أنه متى استدعاه حضر إليه ودخل بلد ابن لاون وأخذ في طريقه حصنا و أخربه ورغبوا إليه في الصلح فصالحهم ورجع عنهم ثم سأله قليج أرسلان في صلح الشرقيين بأسرهم فأجاب إلى ذلك وحلف صلاح الدين في عاشر جمادى الأولى سنة ست وسبعين وخمسمائة ودخل في الصلح قليج أرسلان والمواصلة وعاد بعد تمام الصلح إلى دمشق ثم منها إلى مصر.

معركة حطين

كانت معركة حطين المباركة على المسلمين في يوم السبت 14 ربيع الآخر سنة 583هـ في وسط نهار الجمعة وكان صلاح الدين كثيرا ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصلاة تبركا بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر فسار في ذلك الوقت بمن اجتمع له من العساكر الإسلامية وكانت تجاوز العد والحصر على تعبئة حسنة وهيئة جميلة وكان قد بلغه عن العدو أنه اجتمع في عدة كثيرة بمرج صفورية بعكا عندما بلغهم اجتماع الجيوش الإسلامية فسار ونزل على بحيرة طبرية ثم رحل ونزل على طبرية على سطح الجبل ينتظر هجوم الصليبيين عليه إذا بلغهم نزوله بالموضع المذكور فلم يتحركوا ولا خرجوا من منزلهم وكان نزولهم يوم الأربعاء 21ربيع الآخر فلما رآهم لا يتحركون نزل على طبرية وهاجمها وأخذها في ساعة واحدة وبقيت القلعة محتمية بمن فيها ولما بلغ العدو ما جرى على طبرية قلقوا لذلك ورحلوا نحوها فبلغ السلطان ذلك فترك على طبرية من يحاصر قلعتها ولحق بالعسكر فالتقى بالعدو على سطح جبل طبرية الغربي منها وذلك في يوم الخميس 22 ربيع الآخر وحال الليل بين المعسكرين قياما على مصاف إلى بكرة يوم الجمعة فركب الجيشان وتصادما والتحم القتال واشتد الأمر وذلك بأرض قرية تعرف بلوبيا وضاق الخناق بالعدو وهم سائرون كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون وقد أيقنوا بالويل والثبور وأحست نفوسهم أنهم في غد يومهم ذلك من زوار القبور ولم تزل الحرب تضطرم والفارس مع قرنه يصطدم ولم يبق إلا الظفر ووقع الوبال على من كفر فحال بينهم الليل بظلامه وبات كل واحد من الفريقين في سلاحه إلى صبيحة يوم السبت فطلب كل من الفريقين مقامه وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن ومن بين أيديهم بلاد العدو وأنهم لا ينجيهم إلا الاجتهاد في الجهاد فحملت جيوش المسلمين من جميع الجوانب وحمل القلب وصاحوا صيحة رجل واحد فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين وكان حقا عليه نصر المؤمنين ولما أحس القوم بالخذلان هرب منهم في أوائل الأمر وقصد جهة صور وتبعه جماعة من المسلمين فنجا منهم وكفى الله شره وأحاط المسلمون بالصليبيين من كل جانب وأطلقوا عليهم السهام وحكموا فيهم السيوف وسقوهم كأس الحمام وانهزمت طائفة منهم فتبعها أبطال المسلمين فلم ينج منها أحد واعتصمت طائفة منهم بتل يقال له تل حطين وهي قرية عندها قبر النبي شعيب عليه السلام فضايقهم المسلمون وأشعلوا حولهم النيران واشتد بهم العطش وضاق بهم الأمر حتى كانوا يستسلمون للأمر خوفا من القتل لما مر بهم فأسر مقدموهم وقتل الباقون.

وكان ممن سلم من مقدميهم الملك جفري وأخوه والبرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك وابن الهنفري وابن صاحبة طبرية ومقدم الديوية وصاحب جبيل ومقدم الأسبتار.

قال ابن شداد: ولقد حكي لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصا واحدا معه نيف وثلاثون أسيرا قد ربطهم بوتد خيمة لما وقع عليهم من الخذلان.

وأما أرناط فان صلاح الدين كان قد نذر أنه إن ظفر به قتله وذلك لأنه كان قد عبر به عند الشوبك قوم من مصر في حال الصلح فغدر بهم وقتلهم فناشدوه الصلح الذي بينه وبين المسلمين فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وبلغ السلطان فحملته حميته ودينه على أن يهدر دمه.

من مواقف صلاح الدين

لما فتح الله تعالى عليه بنصره في حطين جلس صلاح الدين في دهليز الخيمة لأنها لم تكن نصبت بعد وعرضت عليه الأسارى وسار الناس يتقربون إليه بمن في أيديهم منهم وهو فرح بما فتح الله تعالى على يده للمسلمين ونصبت له الخيمة فجلس فيها شاكرا لله تعالى على ما أنعم به عليه واستحضر الملك جفري وأخاه و أرناط وناول السلطان جفري شربة من جلاب وثلج فشرب منها وكان على أشد حال من العطش ثم ناولها لأرناط وقال السلطان للترجمان قل للملك أنت الذي سقيته وإلا أنا فما سقيته وكان من جميل عادة العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل أو شرب من مال من أسره أمن فقصد السلطان بقوله ذلك ثم أمر بمسيرهم إلى موضع عينه لهم فمضوا بهم إليه فأكلوا شيئا ثم عادوا بهم ولم يبق عنده سوى بعض الخدم فاستحضرهم وأقعد الملك في دهليز الخيمة.

وأحضر صلاح الدين أرناط وأوقفه بين يديه وقال له: ها أنا أنتصر لمحمد منك ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل فسل سيفه فضربه بها فحل كتفه وتمم قتله من حضر وأخرجت جثته ورميت على باب الخيمة،فلما رآه الملك على تلك الحال لم يشك في أنه يلحقه به فاستحضره وطيب قلبه وقال له لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك وأما هذا فإنه تجاوز الحد وتجرأ على الأنبياء صلوات الله عليهم وبات الناس في تلك الليلة على أتم سرور ترتفع أصواتهم بحمد الله وشكره وتهليله وتكبيره حتى طلع الفجر ثم نزل السلطان على طبرية يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر وتسلم قلعتها في ذلك النهار وأقام عليها إلى يوم الثلاثاء.

تحرير عكا وما حولها

ورحل صلاح الدين طالبا عكا فكان نزوله عليها يوم الأربعاء وقاتل الصليبيين بها بكرة يوم الخميس مستهل جمادى الأولى سنة 583هـ فأخذها واستنقذ من كان بها من أسارى المسلمين وكانوا أكثر من أربعة آلاف نفس واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع لأنها كانت مظنة التجار وتفرقت العساكر في بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة وكان ذلك لخلوها من الرجال لأن القتل والأسر أفنى كثيرا منهم ولما استقرت قواعد عكا وقسم أموالها وأساراها سار يطلب تبنين فنزل عليها يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى وهي قلعة منيعة فنصب عليها المناجيق وضيق بالزحف خناق من فيها، فقاتلوا قتالا شديدا ونصره الله سبحانه عليهم فتسلمها منهم يوم الأحد ثامن عشرة عنوة وأسر من بقي فيها بعد القتل ثم رحل عنها إلى صيدا فنزل عليها وتسلمها في غد يوم نزوله عليها وهو يوم الأربعاء العشرون من جمادى الأولى وأقام عليها ريثما قرر قواعدها وسار حتى أتى بيروت فنازلها ليلة الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى وركب عليها المجانيق وداوم الزحف والقتال حتى أخذها في يوم الخميس التاسع والعشرين من الشهر المذكور وتسلم أصحابه جبيل وهو على بيروت، ولما فرغ من هذا الجانب رأى أن قصده عسقلان أولى لأنها أيسر من صور فأتى عسقلان ونزل عليها يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة من السنة وتسلم في طريقه إليها مواضع كثيرة كالرملة والداروم وأقام في عسقلان المناجيق وقاتلها قتالا شديدا وتسلمها في يوم السبت نهاية جمادى الآخرة من السنة وأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه غزة وبيت جبريل والنطرون بغير قتال وكان بين فتح عسقلان وأخذ الإفرنج لها من المسلمين خمس وثلاثون سنة فإنهم كانوا أخذوها من المسلمين في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 548هـ.

تحرير القدس

قال ابن شداد: لما تسلم صلاح الدين عسقلان والأماكن المحيطة بالقدس شمر عن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك واجتمعت إليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل فسار نحوه معتمدا على الله تعالى مفوضا أمره إليه منتهزا الفرصة في فتح باب الخير الذي حث على انتهازه بقوله من فتح له باب خير فلينتهزه فإنه لا يعلم متى يغلق دونه وكان نزوله عليه في يوم الأحد الخامس عشر من رجب سنة 583هـ وكان نزوله بالجانب الغربي وكان معه من كان مشحونا بالمقاتلة من الخيالة والرجالة وحزر أهل الخبرة ممن كان معه من كان فيه من المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين ألفا خارجا عن النساء والصبيان ثم انتقل لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب ونصب المناجيق وضايق البلد بالزحف والقتال حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم ولما رأى أعداء الله الصليبيون ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع له عنهم وظهرت لهم إمارات فتح المدينة وظهور المسلمين عليهم وكان قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم وحماتهم من القتل والأسر وعلى حصونهم من التخريب والهدم وتحققوا أنهم صائرون إلى ما صار أولئك إليه فاستكانوا وأخلدوا إلى طلب الأمان واستقرت الأمور بالمراسلة من الطائفتين وكان تسلمه في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم فانظر إلى هذا الاتفاق العجيب كيف يسر الله تعالى عوده إلى المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى وكان فتحه عظيما شهده من أهل العلم خلق ومن أرباب الخرق والزهد عالم وذلك أن الناس لما بلغهم ما يسره الله تعالى على يده من فتوح الساحل وقصده القدس قصده العلماء من مصر والشام بحيث لم يتخلف أحد منهم وارتفعت الأصوات بالضجيج بالدعاء والتهليل والتكبير وصليت فيه الجمعة يوم فتحه وخطب القاضي محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن الزكي.

وقد كتب عماد الدين الأصبهاني رسالة في فتح القدس،وجمع كتابا سماه الفتح القسي في الفتح القدسي وهو في مجلدين ذكر فيه جميع ما جرى في هذه الواقعة.

وكان قد حضر الرشيد أبو محمد عبد الرحمن بن بدر بن الحسن بن مفرج النابلسي الشاعر المشهور هذا الفتح فأنشد السلطان صلاح الدين قصيدته التي أولها:

هذا الذي كانت الآمال تنتظر*****فليوف لله أقوام بما نذروا

وهي طويلة تزيد على مائة بيت يمدحه ويهنيه بالفتح.

يقول بهاء الدين بن شداد في السيرة الصلاحية: نكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة وكان شكلا عظيما ونصر الله الإسلام على يده نصرا عزيزا ، وكان الإفرنج قد استولوا على القدس سنة 492هـ ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم صلاح الدين، وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرين دينارا وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية وعن كل صغير ذكر أو أنثى دينارا واحدا فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلا أخذ أسيرا وأفرج عمن كان بالقدس من أسرى المسلمين وكانوا خلقا عظيما وأقام به يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال ويحبو بها الفقهاء والعلماء والزهاد والوافدين عليه وتقدم بإيصال من قام بقطيعته إلى مأمنه وهي مدينة صور ولم يرحل عنه ومعه من المال الذي جبي له شيء وكان يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألفا وكان رحيله عنه يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان من سنة 583هـ

حصار صور

يقول بن شداد: لما فتح صلاح الدين القدس حسن عنده قصد صور وعلم أنه إن أخر أمرها ربما عسر عليه فسار نحوها حتى أتى عكا فنزل عليها ونظر في أمورها ثم رحل عنها متوجها إلى صور في يوم الجمعة خامس شهر رمضان من السنة(583) فنزل قريبا منها وسير لإحضار آلات القتال ولما تكاملت عنده نزل عليها في ثاني عشر الشهر المذكور وقاتلها وضايقها قتالا عظيما واستدعى أسطول مصر فكان يقاتلها في البر والبحر ثم سير من حاصر هونين فسلمت في الثالث والعشرين من شوال من السنة، ثم خرج أسطول صور في الليل فهاجم أسطول المسلمين وأخذوا المقدم والريس وخمس قطع للمسلمين وقتلوا خلقا كثيرا من رجال المسلمين وذلك في السابع والعشرين من الشهر المذكور وعظم ذلك على السلطان وضاق صدره وكان الشتاء قد هجم وتراكمت الأمطار وامتنع الناس من القتال لكثرة الأمطار فجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بالرحيل لتستريح الرجال ويجتمعوا للقتال فرحل عنها وحملوا من آلات الحصار ما أمكن وأحرقوا الباقي الذي عجزوا عن حمله لكثرة الوحل والمطر وكان رحيله يوم الأحد ثاني ذي القعدة من السنة وتفرقت العساكر وأعطى كل طائفة منها دستورا وسار كل قوم إلى بلادهم وأقام هو مع جماعة من خواصه بمدينة عكا إلى أن دخلت سنة 584هـ

ثم نزل على كوكب في أوائل المحرم من السنة ولم يبق معه من العسكر إلا القليل وكان حصنا حصينا وفيه الرجال والأقوات فعلم أنه لا يؤخذ إلا بقتال شديد فرجع إلى دمشق، وأقام بدمشق خمسة أيام. ثم بلغه أن الإفرنج قصدوا جبيل واغتالوها فخرج مسرعا وكان قد سير يستدعي العساكر من جميع المواضع وسار يطلب جبيل فلما عرف الإفرنج بخروجه كفوا عن ذلك.

بقية فتوح الشام

قال ابن شداد في السيرة: لما كان يوم الجمعة رابع جمادى الأولى من سنة 584هـ دخل السلطان بلاد العدو على تعبية حسنة ورتب الأطلاب وسارت الميمنة أولا ومقدمها عماد الدين زنكي والقلب في الوسط والميسرة في الأخير ومقدمها مظفر الدين ابن زين الدين فوصل إلى انطرسوس ضاحي نهار الأحد سادس جمادى الأولى فوقف قبالتها ينظر إليها لأن قصده كان جبلة فاستهان بأمرها وعزم على قتالها فسير من رد الميمنة وأمرها بالنزول على جانب البحر والميسرة على الجانب الآخر ونزل هو موضعه والعساكر محدقة بها من البحر إلى البحر وهي مدينة راكبة على البحر ولها برجان كالقلعتين فركبوا وقاربوا البلد وزحفوا واشتد القتال وباغتوها فما استتم نصب الخيام حتى صعد المسلمون سورها وأخذوها بالسيف وغنم المسلمون جميع من بها وما بها وأحرق البلد و أقام عليها إلى رابع عشر جمادى الأولى وسلم أحد البرجين إلى مظفر الدين فما زال يحاربه حتى أخربه واجتمع به ولده الملك الظاهر لأنه كان قد طلبه فجاءه في عسكر عظيم، ثم سار يريد جبلة وكان وصوله إليها في ثاني عشر جمادى الأولى وما استتم نزول العسكر عليها حتى أخذ البلد وكان فيه مسلمون مقيمون وقاض يحكم بينهم وقوتلت القلعة قتالا شديدا ثم سلمت بالأمان في يوم السبت تاسع عشر جمادى الأولى من السنة وأقام عليها إلى الثالث والعشرين منه، ثم سار عنها إلى اللاذقية وكان نزوله عليها يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الأولى وهو بلد مليح خفيف على القلب غير مسور وله ميناء مشهور وله قلعتان متصلتان على تل يشرف على البلد واشتد القتال إلى آخر النهار فأخذ البلد دون القلعتين وغنم الناس منه غنيمة عظيمة لأنه كان بلد التجار وجدوا في أمر القلعتين بالقتال والنقوب حتى بلغ طول النقب ستين ذراعا وعرضه أربعة أذرع فلما رأى أهل القلعتين الغلبة لاذوا بطلب الأمان وذلك في عشية يوم الجمعة الخامس والعشرين من الشهر والتمسوا الصلح على سلامة نفوسهم وزراريهم ونسائهم وأموالهم ما خلا الذخائر والسلاح وآلات الحرب فأجابهم إلى ذلك ورفع العلم الإسلامي عليها يوم السبت وأقام عليها إلى يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الأولى فرحل عنها إلى صهيون فنزل عليها يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من الشهر واجتهد في القتال فأخذ البلد يوم الجمعة ثاني جمادى الآخرة ثم تقدموا إلى القلعة وصدقوا القتال فلما عاينوا الهلاك طلبوا الأمان فأجابهم إليه بحيث يؤخذ من الرجل عشرة دنانير ومن المرأة خمسة دنانير ومن كل صغير ديناران الذكر والأنثى سواء و أقام السلطان بهذه الجهة حتى أخذ عدة قلاع منها بلاطنس وغيرها من الحصون المنيعة المتعلقة بصهيون، ثم رحل عنها وأتى بكاس وهي قلعة حصينة على العاصي ولها نهر يخرج من تحتها وكان النزول عليها يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة وقاتلوها قتالا شديدا إلى يوم الجمعة تاسع الشهر ثم يسر الله فتحها عنوة فقتل أكثر من بها وأسر الباقون وغنم المسلمون جميع ما كان فيها ولها قليعة تسمى الشغر وهي في غاية المنعة يعبر إليها منها بجسر وليس عليها طريق فسلطت المناجيق عليها من جميع الجوانب ورأوا أنهم لا ناصر لهم فطلبوا الأمان وذلك يوم الثلاثاء ثالث عشر الشهر ثم سألوا المهلة ثلاثة أيام فأمهلوا وكان تمام فتحها وصعود العلم السلطاني على قلعتها يوم الجمعة سادس عشر الشهر.

ثم سار إلى برزية وهي من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها المثل في بلاد الإفرنج تحيط بها أودية من جميع جوانبها وعلوها خمسمائة ونيف وسبعون ذراعا وكان نزوله عليها يوم السبت الرابع والعشرين من الشهر ثم أخذها عنوة يوم الثلاثاء السابع والعشرين منه.

ثم سار إلى دربساك فنزل عليها يوم الجمعة ثامن رجب وهي قلعة منيعة وقاتلها قتالا شديدا ورقي العلم الإسلامي عليها يوم الجمعة الثاني والعشرين من رجب وأعطاها الأمير علم الدين سليمان بن جندر وسار عنها بكرة يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر.

ونزل على بغراس وهي قلعة حصينة بالقرب من إنطاكية وقاتلها مقاتلة شديدة وصعد العلم الإسلامي عليها في ثاني شعبان وراسله أهل إنطاكية في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر من البيكار وكان الصلح معهم لا غير على أن يطلقوا كل أسير عندهم والصلح إلى سبعة أشهر فإن جاءهم من ينصرهم و سلموا البلد.

ثم رحل السلطان فسأله ولده الملك الظاهر صاحب حلب أن يجتاز به فأجابه إلى ذلك فوصل حلب في حادي عشر شعبان أقام بالقلعة ثلاثة أيام وولده يقوم بالضيافة حق القيام، وسار من حلب فاعترضه تقي الدين عمر ابن أخيه وأصعده إلى قلعة حماة وصنع له طعاما وأحضر له سماعا من جنس ما تعمل الصوفية وبات فيها ليلة واحدة وأعطاه جبلة واللاذقية، وسار على طريق بعلبك ودخل دمشق قبل شهر رمضان بأيام يسيرة، ثم سار في أوائل شهر رمضان يريد صفد فنزل عليها ولم يزل القتال حتى تسلمها بالأمان في رابع عشر شوال.

ثم سار إلى كوكب وضايقوها وقاتلوها مقاتلة شديدة والأمطار متواترة والوحول متضاعفة والرياح عاصفة والعدو متسلط بعلو مكانه فلما تيقنوا أنهم مأخوذون طلبوا الأمان فأجابهم إليه وتسلمها منهم في منتصف ذي القعدة من السنة.

الصليبيون في عكا

بلغ صلاح الدين أن الإفرنج قصدوا عكا ونزلوا عليها يوم الاثنين ثالث عشر رجب سنة 585هـ فأتى عكا ودخلها بغتة لتقوى قلوب من بها و استدعى العساكر من كل ناحية فجاءته وكان العدو بمقدار ألفي فارس وثلاثين ألف راجل ثم تكاثر الإفرنج واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا ومنعوا من يدخل إليها ويخرج وذلك يوم الخميس فضاق صدر السلطان لذلك ثم اجتهد في فتح الطريق إليها لتستمر السابلة بالميرة والنجدة وشاور الأمراء فاتفقوا على مضايقة العدو لينفتح الطريق ففعلوا ذلك وانفتح الطريق وسلكه المسلمون ودخل السلطان عكا فأشرف على أمورها ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام وتأخر الناس إلى تل العياضية وهو مشرف على عكا وفي هذه المنزلة توفي الأمير حسام الدين طمان وذلك ليلة نصف شعبان من سنة خمس وثمانين وخمسمائة وكان من الشجعان.

قال ابن شداد سمعت السلطان ينشد وقد قيل له إن الوخم قد عظم بمرج عكا وإن الموت قد فشا في الطائفتين :

اقتلاني ومالكا*****واقتلا مالكا معي

يريد بذلك أنه قد رضي أن يتلف إذا أتلف الله أعداءه، وهذا البيت له سبب يحتاج إلى شرح وذلك أن مالك بن الحارث المعروف بالأشتر النخعي كان من الشجعان والأبطال المشهورين وهو من خواص أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه تماسك في يوم معركة الجمل المشهورة هو وعبد الله بن الزبير بن العوام وكان أيضا من الأبطال وابن الزبير يومئذ مع خالته عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين وكانوا يحاربون عليا رضي الله عنه فلما تماسكا صار كل واحد منهما إذا قوي على صاحبه جعله تحته وركب صدره وفعلا ذلك مرارا وابن الزبير ينشد :

اقتلاني ومالكا*****واقتلا مالكا معي

يريد الأشتر النخعي.

قال ابن شداد ثم إن الإفرنج جاءهم الإمداد من داخل البحر واستظهروا على الجيوش الإسلامية بعكا وكان فيهم الأمير سيف الدين علي بن أحمد المعروف بالمشطوب الهكاري والأمير بهاء الدين قراقوش الخادم الصلاحي وضايقوهم أشد مضايقة إلى أن غلبوا عن حفظ البلد فلما كان يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من سنة 587هـ خرج من عكا رجل عوام ومعه كتب من المسلمين يذكرون حالهم وما هم فيه وأنهم قد تيقنوا الهلاك ومتى أخذوا البلد عنوة ضربت رقابهم وأنهم صالحوا على أن يسلموا البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدة والأسلحة والمراكب ومائتي ألف دينار وخمسمائة أسير مجاهيل ومائة أسير معينين من جهتهم وصليب الصلبوت على أن يخرجوا بأنفسهم سالمين وما معهم من الأموال والأقمشة المختصة بهم وزراريهم ونسائهم وضمنوا للمركيس لأنه كان الواسطة في هذا الأمر أربعة آلاف دينار ولما وقف السلطان على الكتب المشار إليها أنكر ذلك إنكارا عظيما وعظم عليه هذا الأمر وجمع أهل الرأي من أكابر دولته وشاورهم فيما يصنع واضطربت آراؤه وتقسم فكره وتشوش حاله وعزم على أن يكتب في تلك الليلة مع العوام وينكر عليهم المصالحة على هذا الوجه وهو يتردد في هذا فلم يشعر إلا وقد ارتفعت أعلام العدو وصلبانه وناره وشعاره على سور البلد وذلك في ظهيرة يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من السنة وصاح الإفرنج صيحة عظيمة واحدة وعظمت المصيبة على المسلمين واشتد حزنهم ووقع فيهم الصياح والعويل والبكاء والنحيب.

ثم ذكر ابن شداد بعد هذا أن الإفرنج خرجوا من عكا قاصدين عسقلان ليأخذوها وساروا على الساحل والسلطان وعساكره في قبالتهم إلى أن وصلوا إلى أرسوف فكان بينهما قتال عظيم ونال المسلمين منه وهن شديد ثم ساروا على تلك الهيئة تتمة عشر منازل من مسيرهم من عكا فأتى السلطان الرملة وأتاه من أخبره بأن القوم على عزم عمارة يافا وتقويتها بالرجال والعدد والآلات فأحضر السلطان أرباب مشورته وشاورهم في أمر عسقلان وهل الصواب خرابها أم بقاؤها فاتفقت آراؤهم أن يبقى الملك العادل في قبالة العدو ويتوجه هو بنفسه ويخربها خوفا من أن يصل العدو إليها ويستولي عليها وهي عامرة ويأخذ بها القدس وتنقطع بها طريق مصر وامتنع العسكر من الدخول وخافوا مما جرى على المسلمين بعكا ورأوا أن حفظ القدس أولى فتعين خرابها من عدة جهات وكان هذا الاجتماع يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانين وخمسمائة فسار إليها فجر الأربعاء ثامن عشر الشهر قال ابن شداد وتحدث معي في معنى خرابها بعد أن تحدث مع ولده الملك الأفضل في أمرها أيضا ثم قال لأن أفقد ولدي جميعهم أحب إلي من أن أهدم منها حجرا ولكن إذا قضى الله تعالى ذلك وكان فيه مصلحة للمسلمين فما الحيلة في ذلك قال ولما اتفق الرأي على خرابها أوقع الله تعالى في نفسه ذلك وأن المصلحة فيه لعجز المسلمين عن حفظها وشرع في خرابها فجر يوم الخميس التاسع عشر من شعبان من السنة وقسم السور على الناس وجعل لكل أمير وطائفة من العسكر بدنة معلومة وبرجا معينا يخربونه ودخل الناس البلد ووقع فيهم الضجيج والبكاء وكان بلدا خفيفا على القلب محكم الأسوار عظيم البناء مرغوبا في سكنه فلحق الناس على خرابه حزن عظيم وعظم عويل أهل البلد عليه لفراق أوطانهم وشرعوا في بيع ما لا يقدرون على حمله فباعوا ما يساوي عشرة دراهم بدرهم واحد وباعوا اثني عشر طير دجاج بدرهم واحد واختبط البلد وخرج الناس بأهلهم وأولادهم إلى المخيم وتشتتوا فذهب قوم منهم إلى مصر وقوم إلى الشام وجرت عليهم أمور عظيمة واجتهد السلطان وأولاده في خراب البلد كي لا يسمع العدو فيسرع إليه ولا يمكن من خرابه وبات الناس على أصعب حال وأشد تعب مما قاسوه في خرابها وفي تلك الليلة وصل من جانب الملك العادل من أخبر أن الإفرنج تحدثوا معه في الصلح وطلبوا جميع البلاد الساحلية فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما علم من نفس الناس من الضجر من القتال وكثرة ما عليهم من الديون وكتب إليه يأذن له في ذلك وفوض الأمر إلى رأيه وأصبح يوم الجمعة العشرين من شعبان وهو مصر على الخراب واستعمل الناس عليه وحثهم على العجلة فيه وأباحهم ما في الهري الذي كان مدخرا للميرة خوفا من هجوم الإفرنج والعجز عن نقله وأمر بإحراق البلد فأضرمت النيران في بيوته وكان سورها عظيما ولم يزل الخراب يعمل في البلد إلى نهاية شعبان من السنة وأصبح يوم الإثنين مستهل شهر رمضان أمر ولده الملك الأفضل أن يباشر ذلك بنفسه وخواصه ولقد رأيته يحمل الخشب بنفسه لأجل الإحراق، وفي يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان أتى الرملة ثم خرج إلى "اللد" وأشرف عليها وأمر بخرابها وخراب قلعة الرملة ففعل ذلك وفي يوم السبت ثالث عشر شهر رمضان تأخر السلطان بالعسكر إلى جهة الجبل ليتمكن الناس من تسيير دوابهم لإحضار ما يحتاجون إليه ودار السلطان حول النطرون وهي قلعة منيعة فأمر بتخريبها وشرع الناس في ذلك.

الصلح مع الصليبيين

ثم ذكر ابن شداد بعد هذا أن الانكتار وهو من أكابر ملوك الإفرنج سير رسوله إلى الملك العادل يطلب الاجتماع به فأجابه إلى ذلك واجتمعا يوم الجمعة ثامن عشر شوال من السنة وتحادثا معظم ذلك النهار وانفصلا عن مودة أكيدة والتمس الانكتار من العادل أن يسأل السلطان أن يجتمع به فذكر العادل ذلك للسلطان فاستشار أكابر دولته في ذلك ووقع الاتفاق على أنه إذا جرى الصلح بيننا يكون الاجتماع بعد ذلك ثم وصل رسول الانكتار وقال إن الملك يقول إني أحب صداقتك ومودتك وأنت تذكر أنك أعطيت هذه البلاد الساحلية لأخيك فأريد أن تكون حكما بيني وبينه وتقسم البلاد بيني وبينه ولا بد أن يكون لنا علقة بالقدس وأطال الحديث في ذلك فأجابه السلطان بوعد جميل وأذن له في العود في الحال وتأثر لذلك تأثرا عظيما قال ابن شداد وبعد انفصال الرسول قال لي السلطان متى صالحناهم لم تؤمن غائلتهم ولو حدث بي حادث الموت ما كانت تجتمع هذه العساكر وتقوى الإفرنج والمصلحة أن لا نزول عن الجهاد حتى نخرجهم من الساحل أو يأتينا الموت هذا كان رأيه وإنما غلب على الصلح.

قال ابن شداد ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح و تم الصلح بينهم يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان سنة 588هـ ونادى المنادي بانتظام الصلح وأن البلاد الإسلامية والنصرانية واحدة في الأمن والمسالمة فمن شاء من كل طائفة يتردد إلى بلاد الطائفة الأخرى من غير خوف ولا محذور وكان يوما مشهودا نال الطائفتين فيه من المسرة ما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد علم الله تعالى أن الصلح لم يكن عن مرضاته وإيثاره ولكنه رأى المصلحة في الصلح لسآمة العسكر ومظاهرتهم بالمخالفة وكان مصلحة في علم الله تعالى فإنه اتفقت وفاته بعد الصلح فلو اتفق ذلك في أثناء وقعاته كان الإسلام على خطر.

ثم أعطى للعساكر الواردة عليه من البلاد البعيدة برسم النجدة دستورا فساروا عنه وعزم على الحج لما فرغ باله من هذه الجهة وتردد المسلمون إلى بلادهم وجاءوا هم إلى بلاد المسلمين وحملت البضائع والمتاجر إلى البلاد وحضر منهم خلق كثير لزيارة القدس.

أواخر أيامه

بعد الصلح سنة 588هـ توجه السلطان إلى القدس ليتفقد أحوالها وتوجه أخوه الملك العادل إلى الكرك وابنه الملك الظاهر إلى حلب وابنه الأفضل إلى دمشق وأقام السلطان بالقدس يقطع الناس ويعطيهم دستورا ويتأهب للمسير إلى الديار المصرية وانقطع شوقه عن الحج ولم يزل كذلك إلى أن صح عنده مسير مركب الانكتار متوجها إلى بلاده في مستهل شوال فعند ذلك قوي عزمه أن يدخل الساحل جريدة يتفقد القلاع البحرية إلى بانياس ويدخل دمشق ويقيم بها أياما قلائل ويعود إلى القدس ومنه إلى الديار المصرية.

قال ابن شداد: وأمرني صلاح الدين بالمقام في القدس إلى حين عوده لعمارة مارستان أنشأه به وتكميل المدرسة التي أنشأها فيه وسار منه ضاحي نهار الخميس السادس من شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ولما فرغ من افتقاد أحوال القلاع وإزاحة خللها دخل دمشق بكرة الأربعاء سادس عشر شوال وفيها أولاده الملك الأفضل والملك الظاهر والملك الظافر مظفر الدين الخضر المعروف بالمشعر وأولاده الصغار وكان يحب البلد ويؤثر الإقامة فيه على سائر البلاد وجلس للناس في بكرة يوم الخميس السابع والعشرين منه وحضروا عندهم وبلوا شوقهم منه وأنشده الشعراء ولم يتخلف أحد عنه من الخواص والعوام وأقام ينشر جناح عدله ويهطل سحاب إنعامه وفضله ويكشف مظالم الرعايا فلما كان يوم الاثنين مستهل ذي القعدة عمل الملك الأفضل دعوة للملك الظاهر لأنه لما وصل إلى دمشق وبلغه حركة السلطان أقام بها ليتملى بالنظر إليه ثانيا وكأن نفسه كانت قد أحست بدنو أجله فودعه في تلك الدفعة مرارا متعددة ولما عمل الملك الأفضل الدعوة أظهر فيها من الهمم العالية ما يليق بهمته وكأنه أراد بذلك مجازاته ما خدمه به حين وصل إلى بلده وحضر الدعوة المذكورة أرباب الدنيا والآخرة وسأل السلطان الحضور فحضر جبرا لقلبه وكان يوما مشهودا على ما بلغني.

ولما تصفح الملك العادل أحوال الكرك وأصلح ما قصد إصلاحه فيه سار قاصدا إلى البلاد الفراتية فوصل إلى دمشق في يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة وخرج السلطان إلى لقائه وأقام يتصيد حوالي غباغب إلى الكسوة حتى لقيه وسارا جميعا يتصيدان وكان دخولهما إلى دمشق آخر نهار يوم الأحد حادي عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأقام السلطان بدمشق يتصيد هو وأخوه وأولاده ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الصبا وكأنه وجد راحة مما كان به من ملازمة التعب والنصب وسهر الليل وكان ذلك كالوداع لأولاده ومراتع نزهه ونسي عزمه إلى مصر وعرضت له أمور أخر وعزمات غير ما تقدم.

وفاة صلاح الدين

قال ابن شداد: وصلني كتاب صلاح الدين إلى القدس يستدعيني لخدمته وكان شتاء شديدا ووحلا عظيما فخرجت من القدس في يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة 589هـ وكان الوصول إلى دمشق في يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر من السنة وركب السلطان لملتقى الحاج يوم الجمعة خامس عشر صفر وكان ذلك آخر ركوبه، ولما كان ليلة السبت وجد كسلا عظيما وما تنصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية وكانت في باطنه أكثر منها في ظاهره وأصبح يوم السبت متكاسلا عليه أثر الحمى ولم يظهر ذلك للناس لكن حضرت عنده أنا والقاضي الفاضل ودخل ولده الملك الأفضل وطال جلوسنا عنده وأخذ يشكو قلقه في الليل وطاب له الحديث إلى قريب الظهر ثم انصرفنا وقلوبنا عنده فتقدم إلينا بالحضور على الطعام في خدمة ولده الملك الأفضل ولم تكن للقاضي الفاضل في ذلك عادة فانصرف ودخلت إلى الإيوان القبلي وقد مد السماط وابنه الملك الأفضل قد جلس في موضعه فانصرفت وما كانت لي قوة في الجلوس استيحاشا له وبكى في ذلك اليوم جماعة تفاؤلا لجلوس ولده في موضعه ثم أخذ المرض يتزيد من حينئذ ونحن نلازم التردد طرفي النهار وندخل إليه أنا والقاضي الفاضل في النهار مرارا وكان مرضه في رأسه وكان من إمارات انتهاء العمر غيبة طبيبه الذي كان قد عرف مزاجه سفرا وحضرا ورأى الأطباء فصده ففصدوه فاشتد مرضه وقلت رطوبات بدنه وكان يغلب عليه اليبس ولم يزل المرض يتزايد حتى انتهى إلى غاية الضعف واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن ولم يزل يتزايد ويغيب ذهنه ولما كان التاسع حدثت له غشية وامتنع من تناول المشروب واشتد الخوف في البلد وخاف الناس ونقلوا أقمشتهم من الأسواق وعلا الناس من الكآبة والحزن ما لا تمكن حكايته ولما كان العاشر من مرضه حقن دفعتين وحصل من الحقن بعض الراحة وفرح الناس بذلك ثم اشتد مرضه وأيس منه الأطباء ثم شرع الملك الأفضل في تحليف الناس، ثم إنه توفي بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة 589هـ وكان يوم موته يوما لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة لا يعلمها إلا الله تعالى وبالله لقد كنت أسمع من الناس أنهم يتمنون فداء من يعز عليهم بنفوسهم وكنت أتوهم أن هذا الحديث على ضرب من التجوز والترخص إلى ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالأنفس.

ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء وغسله، وأخرج بعد صلاة الظهر رحمه الله في تابوت مسجى بثوب فوط فارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم الضجيج وأخذ الناس في البكاء والعويل وصلوا عليه أرسالا ثم أعيد إلى الدار التي في البستان وهي التي كان متمارضا بها ودفن في الصفة الغربية منها وكان نزوله في حفرته قريبا من صلاة العصر.

وأنشد بن شداد في آخر السيرة بيت أبى تمام الطائي وهو:

ثم انقضت تلك السنون*****وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام

رحمه الله تعالى وقدس روحه فلقد كان من محاسن الدنيا وغرائبها، وذكر ابن شداد : أنه مات ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما ناصرية وجرما واحدا ذهبا صوريا ولم يخلف ملكا لا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة.

وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالا شديدا وقد حفرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الحناجر وقد ودعت أباك ومخدومي وداعا لا تلاقي بعده وقد قبلت وجهه عني وعنك وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضيا عن الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المعدة ما لم يدفع البلاء ولا ملك يرد القضاء وتدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك لمحزونون يا يوسف وأما الوصايا فما تحتاج إليها والآراء فقد شغلني المصاب عنها وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم والسلام .

Tuesday, July 21, 2009

Hukum Bersalam Dengan Wanita Ajnabi (Bahagian 2)

حكم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية مذهب المالكية

ذهب المالكية إلى تحريم مصافحة المرأة الأجنبيّة سواء كانت بشهوة أو بغيرها، وسواء كانت شابة أو عجوزًا؛ أخذًا بعموم الأدلة المثبتة للتحريم. ففي الشرح الصغير للشيخ الدردير مع حاشيته للعلامة الصاوي: "(ولا تجوز مصافحة الرجل المرأة)، أي: الأجنبية، (ولو مُتَجالَّة; لأن المباح الرؤية فقط)، وإنما المستحسن المصافحة بين المرأتين لا بين رجل وامرأة أجنبية"([9]). مذهب الشافعية: المفهوم من كلام السادة الشافعية عدم جواز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية إلا بشرطين: أمن الفتنة، ووجود حائل إذا دعت الحاجة. ففي المنهاج وشرحه للرملي: "ويجوز للرجل دلك فخذ الرجل بشرط حائل وأمن فتنة، وأُخِذ منه حِلُّ مصافحة الأجنبية مع ذينك; وأفهم تخصيصُه الحل معهما بالمصافحة حرمةَ مس غير وجهها وكفيها من وراء حائل ولو مع أمن الفتنة وعدم الشهوة, ووَجْهُه أنه مَظِنَّة لأحدهما كالنظر وحينئذ فيلحق بها الأمرد في ذلك, ويؤيده إطلاقهم حرمة معانقته الشاملة لكونها من وراء حائل"([10]). وفي حاشيتي الشرواني والعبادي على التحفة عند قول المصنف: (وأخذ منه حل مصافحة الأجنبية مع ذينك): "ينبغي تقييد كل من المأخوذ والمأخوذ منه بالحاجة"([11]). فمقصد المنع من المصافحة – عند السادة الشافعية - هو حسم أسباب الشهوة الممنوعة وقطع مظانها، وهذان الشرطان المذكوران يحققان هذا المقصد، فمن أهم أسباب حصول الشهوة تلاقي البشرتين بين الرجل والمرأة، والحائل يمنع من هذا التلاقي فيقطع هذا السبب. وكذلك إن وجد الحائل وخيفت الفتنة بأن يتلذذ من يصافح بيد المصافَح مثلا، فإنه ينبغي حسم هذه المادة أيضًا، فيشترط أمن الفتنة عند المصافحة، ومن هنا جاء اشتراط هذين الشرطين. مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة إلى عدم جواز مصافحة المرأة الأجنبية الشابة، أما العجوز فتجوز مصافحتها، وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد بالكراهة مطلقًا. ففي الإقناع وشرحه للبهوتي: "(ولا تجوز مصافحة المرأة الأجنبية الشابة)؛ لأنها شر من النظر, أما العجوز فللرجل مصافحتها على ما ذكره في الفصول والرعاية، وأطلق في رواية ابن منصور: تكره مصافحة النساء، قال محمد بن عبد الله بن مهران: سئل أبو عبد الله عن الرجل يصافح المرأة قال: لا, وشدد فيه جدًا قلت: فيصافحها بثوبه، قال: لا، قال رجل: فإن كان ذا رحم قال: لا، قلت: ابنته، قال: إذا كانت ابنته فلا بأس، والتحريم مطلقًا اختيار الشيخ تقي الدين، ويتوجه التفصيل بين المحرم وغيره, فأمَّـا الوالد فيجـوز - قاله في الآداب -"([12]). وما نقلناه عن المذاهب الأربعة نلاحظ منه ما يلي: أولا: أن جمهورهم -عدا الشافعية- لا يُجوِّز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية إذا كانا شابين، أما الشافعية فقد أجازوها بشرطين: أمن الفتنة، ووجود حائل إذا دعت الحاجة. ثانيًا: أن جمهورهم – عدا المالكية - يُجوِّز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية إذا كانت عجوزًا لا تُشتهى. ثالثًا: هناك رواية عن الإمام أحمد بن حنبل تقول بالكراهة مطلقًا. أدلة المانعين: ويستدل للمانعين من المصافحة - قديمًا وحديثًا - بما يلي: 1- امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء حال المبايعة، وفي هذا أحاديث: فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى آخر الآية [الممتحنة: 10]. قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقن فقد بايعتكن). لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه بايعهن بالكلام، والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء إلا بما أمره الله يقول لهن إذا أخذ عليهن: (قد بايعتكن) كلامًا([13]). قال الحافظ بن حجر: "قوله (قد بايعتك كلامًا) أن يقول ذلك كلامًا فقط لا مصافحة باليد، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة"([14]). وقال الإمام النووي: "قولها: (والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام) فيه أن بيعة النساء بالكلام من غير أخذ كف، وفيه أن بيعة الرجال بأخذ الكف مع الكلام، وفيه أن كلام الأجنبية يباح سماعه، وأن صوتها ليس بعورة، وأنه لا يلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة كتطبيب وفصد"([15]). وعن أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة يبايعنه فقلن: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئًا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيما استطعتن وأطقتن"، قالت: فقلت: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أصافح النساء إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة أو مثل قولي لامرأة واحدة"([16]). وعلق بعض الباحثين المعاصرين على أحاديث البيعة هذه بقوله: وهذه الأحاديث تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة وهي نص صريح في ذلك، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة فمن باب أولى أنه لم يصافح النساء في غير البيعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم مع عصمته ترك مصافحة النساء ، فعلينا أن نترك ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أسوتنا وقدوتنا ([17]). 2- ما رواه الطبراني عن معقل بن يسار يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له"، وفي لفظ آخر عنده: "لأن يطعن في رأس رجل بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له([18]). قال المنذري: رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح([19])، وقال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح([20]). 3- عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه"([21]). يقول الإمام النووي: "معنى الحديث: أن ابن آدم قُدِّر عليه نصيب من الزنى، فمنهم من يكون زناه حقيقيًّا بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه مجازًا بالنظر الحرام، أو الاستماع إلى الزنى وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده أو يُقَبِّلها، أو بالمشي بالرجل إلى الزنى، أو النظر، أو اللمس، أو الحديث الحرام مع أجنبية، ونحو ذلك، أو بالفكر بالقلب، فكل هذه أنواع من الزنى المجازي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه معناه: أنه قد يحقق الزنى بالفرج وقد لا يحققه بأن لا يولج الفرج في الفرج وإن قارب ذلك، والله أعلم.أهـ ثم نقل قول ابن عباس في رواية أخرى في الصحيحين: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة – أي بما في الحديث من النظر واللمس ونحوهما، وبين تفسيره للمم بذلك فقال: "فمعناه: تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ}[النجم: 32]، ومعنى الآية والله أعلم: الذين يجتنبون المعاصي غير اللمم يغفر لهم اللمم، كما في قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء: 31]، فمعنى الآيتين: أن اجتناب الكبائر يسقط الصغائر، وهي: اللمم، وفسره ابن عباس بما في هذا الحديث من النظر واللمس ونحوهما، وهو كما قال، هذا هو الصحيح في تفسير اللمم"([22]). 4- أن مصافحة الأجنبية ذريعة إلى الافتتان بها: فمن غير المقبول أن يُحَرَّم الشارع شيئًا، ثم يجعل الأسباب المؤدية إليه والمغرية به مباحة، ولا يرتاب أحد سَوِيّ في أن لمس الرجل شيئًا من بدن الأجنبية كما هو الحال في المصافحة ذريعة إلى الافتتان بها، وبما أن المصافحة كذلك فإنها تَحْرُم؛ لأنها مقدمة ووسيلة للافتتان بالمرأة. 5- أن الإسلام قد حرَّم النظر إلى الأجنبية بغير سبب مشروع، فمن باب أولى اللمس؛ لأن النظر أقل من اللمس، واللمس أعظم أثرًا في النفس من مجرد النظر، فاللمس فيه بعث للشهوة وتحريكها فوق ما في النظر. قال الإمام النووي: " قال أصحابنا: كل من حرم النظر إليه حرم مسه، بل المس أشد، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها، وفي حال البيع والشراء والأخذ والعطاء ونحو ذلك، ولا يجوز مسها في شيء من ذلك"([23]). إذن فقياس منع اللمس على منع النظر من باب قياس الأولى وقياس الأولى هو: ما كان الفرع فيه أولى بالحكم من الأصل؛ لقوة العلة فيه، مثل: قياس الضرب على التأفيف، بجامع الإيذاء، فإن الضرب أولى بالتحريم من التأفيف؛ لشدة الإيذاء ([24])، واللمس أبلغ من النظر قطعًا، يقول الإمام الرملي الشافعي في شرحه للمنهاج: "(ومتى حرم النظر حرم المس); لأنه أبلغ في إثارة الشهوة إذ لو أنزل به أفطر, بخلاف ما لو نظر فأنزل فإنه لا يفطر"([25]). رأي الدكتور القرضاوي ذهب العلامة الدكتور يوسف القرضاوي إلى القول بأنه ليس هناك دليل مقنع منصوص عليه يدل على تحريم المصافحة إذا لم تكن هناك شهوة، وأن أقوى ما يُستدل به هنا، هو سد الذريعة إلى الفتنة، وهذا مقبول من غير شك عند تحرك الشهوة، أو خوف الفتنة بوجود أماراتها، ولكن عند الأمن من ذلك وهذا يتحقق في أحيان كثيرة ما وجه التحريم؟ ([26]) وناقش بعض ما يستدل به على المنع كالاستدلال بترك النبي صلى الله عليه وسلم للمصافحة حال البيعة على تركه لها في جميع أحواله، ومن ثم منعها مطلقًا، بأن المقرر أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لأمر من الأمور لا يدل بالضرورة على تحريمه.. فقد يتركه لأنه حرام، وقد يتركه لأنه مكروه، وقد يتركه لأنه خلاف الأولى، وقد يتركه لمجرد أنه لا يميل إليه، كتركه أكل الضب مع أنه مباح. ويقوى كلام الشيخ القرضاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: "إني لا أقبل هدية مشرك"([27]). لكنه قبلها من المشرك في موضع آخر، فقد قبلها من المقوقس ملك القبط حيث أهدى إليه جاريتين منهما مارية القبطية أم ابنه إبراهيم بالإضافة إلى بغلة([28])، ومن ثم فإنه تصريحه صلى الله عليه وسلم بعدم قبول هدية المشرك محمول على حالة معينة؛ بدليل وردود المعارض، فكذلك ما نحن بصدده من قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أصافح النساء". فمجرد الترك لا يقتضي حرمة بمفرده، ولابد معه من دليل آخر، وليُراجع في هذا رسالة العلامة الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري "حسن التفهم والدرك لمسألة الترك" ففيها تفصيل الكلام عن هذا الأمر. وقال أيضًا: إن ترك مصافحته صلى الله عليه وسلم للنساء في المبايعة ليست موضع اتفاق، فقد جاء عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها ما يدل على المصافحة في البيعة، خلافًا لما صح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حيث أنكرت ذلك وأقسمت على نفيه. فقد روي ابن حبان، والبزار، من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة، قالت: فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: "اللهم اشهد"([29]). وكذا في صحيح البخاري عن أم عطية رضي الله عنها قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا: {أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا}. ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها فقالت: أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها، فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فانطلقت ورجعت فبايعها([30])، فإن جملة: "فقبضت امرأة يدها" تُشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن. قال الحافظ في الفتح: ويمكن الجواب عن الأول: بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقـوع المبايعة وإن لم تقع مصافحة.. وعـن الثاني: بأن المراد بقبض اليد: التأخـر عن القبول.. أو كانت المبايعة تقع بحائل، فقد روى أبو داود في المراسيل عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه على يده، وقال: (لا أصافح النساء) وفي مغازي ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم كان يغمس يده في إناء وتغمس المرأة يدها معه، وقال: ويحتمل التعدد([31]). ومعنى ذلك: أن المبايعة وقعت أكثر من مرة، منها ما لم يمس فيها يد امرأة قط لا بحائل ولا بغيره إنما يبايع بالكلام فقط، وهو ما أخبرت به عائشة.. ومنها ما صافح فيه النساء بحائل، وهو ما رواه الشعبي.. ومنها: الصورة التي ذكرها ابن إسحاق من الغمس في الإناء، والصورة التي يدل عليها كلام أم عطية من المصافحة المباشرة، خاصة إذا حمل اللفظ على الحقيقة، ولم يحمل على أنه مجاز عن تأخر القبول، ومما يعضد هذا رواية الإمام أحمد في المسند، وفيها زيادة، فعن أم عطية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على النساء فيما أخذ أن لا ينحن، فقالت امرأة: يا رسول الله إن امرأة أسعدتني أفلا أسعدها، فقبضت يدها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فلم يبايعها([32])، ومما يؤيد هذا ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن هند بنت عتبة قالت: يا نبي الله! بايعني؟ فنظر إلى يدها فقال: "لا أبايعك حتى تغيري كفيك كأنهما كفا سبع"([33])، ويعضده أيضًا ما ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم أن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه، فنظر إلى يدها فقال: "اذهبي فغيري يدك"، فذهبت فغيرتها بحناء ثم جاءت فقال: "أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئًا"، فبايعته وفي يدها سواران من ذهب، فقالت: ما تقول في هذين السوراين؟ فقال: "جزئين من نار جهنم"([34]). فالإرشاد إلى تغيير اليد بالحناء قد يومئ إلى احتمالية المصافحة. ومما يرجح احتمال التعدد: أن عائشة تتحدث عن بيعة المؤمنات المهاجرات بعد صلح الحديبية، أما أم عطية فتتحدث فيما يظهر عما هو أعم من ذلك وأشمل لبيعة النساء المؤمنات بصفة عامة، ومنهن أنصاريات كأم عطية راوية الحديث.. ولهذا ترجم البخاري لحديث عائشة تحت عنوان باب: (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات)، ولحديث أم عطية باب: (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك). واُضيف فأقول: إن المدقق في هذه الأحاديث (أحاديث البيعة: كحديثي عائشة وأم عطية) يرى أنها مجرد وصف للواقع، فيُسْتَشَف منها أنها لا تصلح أن تكون مستندًا قويًّا قطعيًّا لمحرمي مصافحة النساء؛ لكون أم المؤمنين تنفي المصافحة ولا تجرمها، فامتناعُهُ صلى الله عليه وسلم المطلقُ عن مصافحة النساء، على فرض التسليم بذلك، لا يدل على التحريم. كما أن أم المؤمنين لم تصف انتهاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الفعل بوصف يضفي عليه صفة الانتهاء عن المحرم، أي أن الرواية لم ترد فيها قرينة مقال (كقولها حاشا رسول الله أو معاذ الله أن يفعل كذا) أو قرينة حال (كغضبٍ من جانب أم المؤمنين) تدل أو توحي على الأقل بحرمة الفعل الذي انتهى عنه نبينا المعصوم صلى الله عليه وسلم. وإنما كان روايتها منصبة على نفي أمر حسب علمها، فنفيها رضي الله عنها لا يدل على ثبوت الحرمة فضلا أن يدل على عدم الوقوع، بل المحتمل وقوع المصافحة منه صلى الله عليه وسلم، كما مر معنا في حديث أم عطية عند البخاري وأحمد، فكلٌّ حدَّث بما رأى أو علم، فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نفت مثلا تبول النبي صلى الله عليه وسلم قائماً – كما في السنن والمسند - فقالت: من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائمًا فلا تصدقوه؛ ما كان يبول إلا قاعدًا([35]). لكن جاء في الصحيح وغيره عن حذيفة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائمًا ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ([36])، فالواقع أن كلا من السيدة عائشة وحذيفة أخبر بما رأى وعلم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تعارض بين الحديثين. والمقصود من نقل هذا كله: أن ما اعتمد عليه الكثيرون في تحريم المصافحة من ترك النبي صلى الله عليه وسلم لها في بيعة النساء، ليس قطعي الدلالة على الدعوى، ومن ثم فهو ليس موضع اتفاق، بل ساغ فيه الخلاف الذي ذكرناه. - أما حديث: "لأن يطعن في رأس أحدكم بِمخْيَط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له". فقال الشيخ القرضاوي: ومما استُدل به على تحريم مصافحة المرأة ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يطعن في رأس أحدكم بِمخْيَط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له". والمِخْيَط: ما يُخَاطُ به كالإبرة ونحوها([37]). ويلاحظ على الاستدلال بهذا الحديث ما يلي: 1- أن أئمة الحديث لم يصرحوا بصحته، واكتفى مثل المنذري أو الهيثمي أن يقول: رجاله ثقات أو رجال الصحيح.. وهذه الكلمة وحدها لا تكفي لإثبات صحة الحديث لاحتمال أن يكون فيه انقطاع، أو علَّة خفية، ولهذا لم يخرجه أحد من أصحاب الدواوين المشهورة، كما لم يستدل به أحد من الفقهاء في الأزمنة الأولى على تحريم المصافحة ونحوه. 2- على فرض تسليمنا بصحة الحديث، وإمكان أخذ التحريم من مثله، نجد أن دلالة الحديث على الحكم المستدل عليه غير واضحة؛ فكلمة "يمس امرأة لا تحل له" لا تعني مجرد لمس البشرة للبشرة، بدون شهوة، كما يحدث في المصافحة العادية.. بل كلمة "المس" حسب استعمالها في النصوص الشرعية من القرآن والسنة تعني أحد أمرين:- (1) أنها كناية عن الصلة الجنسية "الجماع" كما جاء ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء :43] أنه قال: اللمس والملامسة والمس في القرآن كناية عن الجماع([38]).. واستقراء الآيات التي جاء فيها المس يدل على ذلك بجلاء، كقوله تعـالى على لسان مريم: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}[آل عمران: 47]. وقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ}[البقرة: 237]. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدنو من نسائه من غير مسيس([39]). (2) أنها تعني ما دون الجماع من القبلة والعناق والمباشرة ونحو ذلك مما هو مقدمات الجماع، وهذا ما جاء عن بعض السلف في تفسير الملامسة: قال الحاكم في المستدرك: "قد اتفق البخاري ومسلم على إخراج أحاديث متفرقة في المسندين الصحيحين يستدل بها على أن اللمس ما دون الجماع. - منها: حديث أبي هريرة: "فاليد زناها اللمس". - وحديث ابن عباس: "لعلك مسست". - وحديث ابن مسعود: "وأقم الصلاة طرفي النهار..." (يشير إلى ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعود، وفي بعض رواياته: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه أصاب من امرأة، إما قبلة أو مسًّا بيده، أو شيئًا. كأنه يسأل عن كفارتها، فأنزل الله عز وجل.. يعني آية: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)[هود: 114]. قال: وقد بقى عليهما أحاديث صحيحة في التفسير وغيره..منها:- - عن عائشة قالت: "ما كان يوم أو قَلَّ يوم إلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا جميعًا - تعني نساءه - فيقبل ويلمس ما دون الوقاع، فإذا جاء إلى التي هي يومها ثبت عندها"([40]). - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في معنى قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء: 43] قال: اللمس مادون الجماع، وقال: القبلة من اللمس، وفيها الوضوء([41]). - وعن عمر قال: "إن القبلة من اللمس فتوضئوا منها"([42]). ومن هنا كان مذهب مالك، وظاهر مذهب أحمد: أن لمس المرأة الذي ينقض الوضوء هو ما كان بشهوة، وبه فسروا قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}. ولهذا ضعف شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه قول من فسروا الملامسة أو اللمس في الآية بمجرد مس البشرة ولو بلا شهوة. ومما قاله في ذلك:- "فأما تعليق النقض بمجرد اللمس، فهذا خلاف الأصول، وخلاف إجماع الصحابة وخلاف الآثار، وليس مع قائله نص ولا قياس. فإن كان اللمس في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} إذا أريد به اللمس باليد والقبلة ونحو ذلك كما قاله ابن عمر وغيره فقد علم أنه حيث ذكر ذلك في الكتاب والسنة، فإنما يراد به ما كان لشهوة، مثل قوله في آية الاعتكاف :(ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) ومباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه، بخلاف المباشرة لشهوة. وكذلك قوله: (ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وقوله: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن)، فإنه لو مسها مسيسًا خاليًا من غير شهوة لم يجب به عدة، ولا يستقر به مهر، ولا تنتشر به حرمة المصاهرة باتفاق العلماء. فمن زعم أن قوله: (أو لامستم النساء) يتناول اللمس وإن لم يكن لشهوة، فقد خرج عن اللغة التي جاء بها القرآن، بل وعن لغة الناس في عرفهم، فإنه إذا ذكر المس الذي يقرن فيه بين الرجل والمرأة علم أنه مس الشهوة، كما أنه إذا ذكر الوطء المقرون بين الرجل والمرأة، علم أنه الوطء بالفرج لا بالقدم"([43]). وذكر ابن تيمية في موضع آخر: أن الصحابة تنازعوا في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء: 43]، فكان ابن عباس وطائفة يقولون: الجماع، ويقولون: الله حيي كريم، يُكَنِّي بما شاء عما شاء.قال: وهذا أصح القولين. وقد تنازع العرب والموالي في معنى اللمس: هل المراد به الجماع أو ما دونه؟ فقالت العرب: هو الجماع، وقالت الموالي: هو ما دونه، وتحاكموا إلى ابن عباس فصوب العرب، وخطأ الموالي([44]). والمقصود من نقل هذا الكلام كله أن نعلم أن كلمة "المس" أو "اللمس" حين تستعمل من الرجل للمرأة، لا يراد بها مجـرد وضـع البشـرة على البشرة، بل المراد بها إما الجماع، وإما مقدماته من التقبيل والعناق، ونحـو ذلك من كل مس تصحبه الشهـوة والتلذذ. على أننا لو نظرنا فيما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن فيه ما قد يدل على أن مجرد لمس اليد لليد بين الرجل والمرأة بلا شهوة ولا خشية فتنة، غير ممنوع في نفسه، بل يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله، والأصل في فعله أنه للتشريع والاقتداء: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21]. فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت"([45]). وفي رواية للإمام أحمد عن أنس أيضًا قال: "إن كانت الوليدة يعني الأمة من ولائد أهل المدينة لتجيء، فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت"([46]). قال الحافظ في الفتح: "والمقصود من الأخذ باليد لازمه، وهو الرفق والانقياد، وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ "الإماء" أي أمة كانت، وبقوله "حيث شاءت" أي مكان من الأمكنة، والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة، والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة لساعد على ذلك. وهذا دليل على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم"([47]). وما ذكره الحافظ رحمه الله مُسَلَّمٌ في جملته، ولكن صرفه معنى الأخذ باليد عن ظاهره إلى لازمه وهو الرفق والانقياد غير مسلم؛ لأنه قد يكون الظاهر واللازم مرادان معًا.. والأصل في الكلام أن يحمل على ظاهره، إلا أن يوجد دليل أو قرينة معينة تصرفه عن هذا الظاهر، وفي رواية الإمام أحمد: "فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت"، ففي هذا إشارة إلى احتمال إرادة الظاهر. بل وأكثر من ذلك وأبلغ منه ما جاء في الصحيحين والسنن عن أنس أيضًا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من القيلولة عند خالته خالة أنس أم حرام بنت ملحـان زوج عبـادة بن الصامت، ونام عندها، واضعًا رأسه في حجرها وجعلت تفلي رأسه..."إلخ ما جاء في الحديث([48]). وقد ذكر الحافظ ابن حجر في بيان ما يؤخذ من الحديث، قال: "وفيه جواز قائلة الضيف في غير بيته بشرطه كالإذن وأمن الفتنة..، وجواز خدمة المرأة الأجنبية للضيف بإطعامه والتمهيد له ونحو ذلك. وفيه خدمة المرأة الضيف بتفلية رأسه وقد أشكل هذا على جماعة، فقال ابن عبد البر: أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو أختها أم سليم، فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة، فلذلك كان ينام عندها، وتنال منه ما يجوز للمحرم أن يناله من محارمه.. ثم ساق بسنده ما يشير إلى أن أم حرام كانت منه ذات محرم من قبل خالاته، لأن أم عبد المطلب جده كانت من بني النجار... إلخ. وقال غيره: بل كان النبي صلى الله عليه وسلم معصومًا، يملك إربه عن زوجته فكيف عن غيرها مما هو المنزه عنه؟ وهو المبرأ عن كل فعل قبيح وقول رفث، فيكون ذلك من خصائصه. ورَدَّ ذلك القاضي عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، وثبوت العصمة مُسَلَّم لكن الأصل عدم الخصوصية، وجواز الاقتداء به في أفعاله، حتى يقوم على الخصوصية دليل. وبالغ الحافظ الدمياطي في الرد على من قال بالاحتمال الأول، وهو ادعاء المحرمية، فقال: ذهل كل من زعم أن أم حرام إحدى خالات النبي -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة أو من النسب، واللاتي أرضعنه معلومات، ليس فيهن أحد من الأنصار ألبتة، سوى أم عبد المطلب، وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وأم حرام هي بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر المذكور.. فلا تجتمع أم حرام وسلمى إلا في عامر بن غنم جدهما الأعلى.. وهذه خئولة لا تثبت بها محرمية؛ لأنها خئولة مجازية، وهي كقوله -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص :(هذا خالي)، لكونه من بني زهرة، وهم أقارب أمه آمنـة، وليس سـعد أخًا لآمنة، لا من النسب، ولا من الرضـاعة، ثم قال: وإذا تقرر هذا فقد ثبت في الصحيح: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا على أم سليم، فقيل له أي سـئل في ذلك فقال: "أرحمها، قتل أخوها معي". يعني حرام بن ملحان.. وكان قد قتل يوم بئر معونة.. وإذا كان هذا الحديث قد خص أم سليم بالاستثناء، فمثلها أم حرام المذكورة هنا.. فهما أختان وكانتا في دار واحدة، كل واحدة منهما في بيت من تلك الدار، وحرام بن ملحان أخوهما معًا، فالعلة مشتركة فيهما كما ذكر الحافظ ابن حجر.. وقـد انضاف إلى العلة المـذكورة أن أم سليم هي أم أنس خـادم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد جرت العادة بمخالطة المخدوم خادمه، وأهل خادمه، ورفع الحشمة التي تقع بين الأجانب عنهم. ثم قال الدمياطي: على أنه ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بأم حرام، ولعل ذلك كان مع ولد، أو خادم، أو زوج، أو تابع. قال ابن حجر: وهو احتمال قوي، لكنه لا يدفع الإشكال من أصله، لبقاء الملامسة في تفلية الرأس، وكذا النوم في الحجر. قال الحافظ: وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية، ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل لأن الدليل على ذلك واضح والله أعلم"([49]). يقول الشيخ القرضاوي: والذي يطمئن إليه القلب من هذه الروايات أن مجرد الملامسة ليس حرامًا.. فإذا وجدت أسباب الخلطة كما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأم حرام وأم سليم، وأمنت الفتنة من الجانبين، فلا بأس بالمصافحة عند الحاجة كمثل القادم من سفر، والقريب إذا زار قريبة له أو زارته، والذي أحب أن أؤكده في ختام هذا البحث أمران: الأول: أن المصافحة إنما تجوز عند عدم الشهوة، وأمن الفتنة، فإذا خيفت الفتنة على أحد الطرفين، أو وجدت الشهوة والتلذذ من أحدهما حرمت المصافحة بلا شك. بل لو فقد هذان الشرطان عدم الشهوة وأمن الفتنة بين الرجل ومحارمه مثل خالته، أو عمته، أو أخته من الرضاع، أو بنت امرأته، أو زوجة أبيه، أو أم امرأته، أو غير ذلك، لكانت المصافحة حينئذ حرامًا، بل لو فقد الشرطان بين الرجل وبين صبي أمرد حرمت مصافحته أيضًا، وربما كان في بعض البيئات، ولدى بعض الناس، أشد خطرًا من الأنثى. الثاني: ينبغي الاقتصار في المصافحة على موضع الحاجة، مثل ما جاء في السؤال كالأقارب والأصهـار الذين بينهم خلطـة وصلة قوية، ولا يحسـن التوسع في ذلك، سدًّا للذريعة، وبعدًا عن الشبهة، وأخذًا بالأحوط، واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأفضل للمسلم المتدين، والمسلمة المتدينة ألا يبدأ أحدهما بالمصافحة، ولكن إذا صوفح صافح. وإنما قررنا الحكم ليعمل به من يحتاج إليه دون أن يشعر أنه فرَّط في دينه، ولا ينكر عليه من رآه يفعل ذلك ما دام أمرًا قابلاً للاجتهاد، والله أعلم([50]). خلاصة بحث الشيخ القرضاوي مما سبق يتبين لنا أن القول بحرمة المصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية هو قول جمهور الفقهاء، والقول بالكراهة قول مروي عن الإمام أحمد، ويرى بعض العلماء المعاصرين الجواز مطلقًا عند أمن الشهوة، ولكل واحد من أصحاب هذه الآراء مستنده الشرعي. وقد نص العلماء على أنه يجوز لمن خاف من الوقوع في المحرَّم أن يقلد من أجازه من العلماء تخلصًا من الحرمة، فهناك دائرتان، الأولى: هي دائرة المحرم قطعي التحريم، والدائرة الثانية: هي دائرة المحرم ظني التحريم الذي قد تجاذبته أنظار العلماء؛ لوقوع الظن في دليل التحريم سواء من ناحية السند أو الدلالة، فالدائرة الأولى ليست هي ما نعني، وإنما ما نعنيه هي الدائرة الثانية، فقضية التحريم في حق من يقلِّد القائل بها لا تعدو أن تكون من قبيل الظن، وهذا الظن مقابل بظن آخر في القول بالجواز، ومن هنا جاء القول بجواز تقليد رأي المجتهد القائل بالجواز، لأن المقلِّد لا يعدو أن يكون قد انتقل من ظن إلى ظن، والقولان -سواء المحرم أو المبيح- تحت مظلة الشريعة لا يخرج أحدهما عنها ولا يمكن لأحد أن يقطع بأن أحدهما هو حكم الله في نفس الأمر. وممن أشار إلى شيء من هذا شيخ الإسلام العلامة البيجوري في حاشيته الفقهية -عند قول الشارح: (ولا يجوز في غير ضرورة لرجل أو امرأة استعمال شيء من أواني الذهب والفضة)- حيث قال: "عده البلقيني وكذا الدميري من الكبائر، ونقل الأذرعي عن الجمهور أنه من الصغائر وهو المعتمد، وقال داود الظاهري: بكراهة استعمال أواني الذهب والفضة كراهة تنزيهية، وهو قول للشافعي في القديم، وقيل الحرمة مختصة بالأكل والشرب دون غيرهما؛ أخذًا بظاهر الحديث، وهو: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما"، وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة، وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن من ابتلي بشيء من ذلك كما يقع كثيرًا تقليد ما تقدم؛ ليتخلص من الحرمة"اهـ ([51]). وليس معنى قولنا بجواز تقليد المبيح أننا نجيز لأحد أن يخرج عن دائرة الشريعة بل المقصود بهذا هو تصحيح أفعال الناس ومعاملاتهم ما أمكن، ولأن يُقدمَ المرء على فعل شيء وله وجه يجيزه شرعًا خير له من أن تُغَلَّق أمامه كل الأبواب فلا يجد أمامه من سبيل إلا اقتحام المحرم، وقد كان له مندوحة بأن يقلد من أجاز. ومسألة المصافحة من هذا الباب فإذا انتفت الشهوة وأمنت الفتنة وأسقط في يد المرء بحيث أصبح تملصه منها مدعاة لإحراجه أو إحراج من يبتدئه بالمصافحة فله أن يوسع على نفسه بتقليد المجيز، ولا حرج عليه حينئذ ولا إثم. والله تعالى أعلى وأعلم ([1])الصحاح مادة (صفح) 1/383 . ([2])المصباح المنير مادة صفح ص342 . ([3])لسان العرب مادة (صفح) 7/356 . ([4])فتح الباري 11/54 . ([5])الموسوعة الفقهية الكويتية 19/267 . ([6])شرح النووي على مسلم 9 / 105 .. ([7]) صحيح مسلم (1445) ، (1447) . ([8])تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 6/18، قال الزيلعي في نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (6/128) عن الحديث المذكور: "غريب"، وكذلك قال عن الأثريين المرويين عن أبي بكر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما ، وقال الحافظ ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2/224) عن الحديث المذكور: "لم أجده"، وكذلك قال عن الأثريين المرويين عن أبي بكر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما . ([9])حاشية الصاوي على الشرح الصغير للشيخ الدردير 4/760 بتصرف ، والمرأة المُتَجالَّة: هي التي أَسَنَّت وكَبِرَتْ . لسان العرب لابن منظور مادة (جلل) 11/116 . ([10]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6/191، 192 . ([11]) حاشيتا الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج للرملي 7/198 . ([12])كشاف القناع عن متن الإقناع 2/154، 155 . مع الآداب الشرعية لابن مفلح 2/257، 258، و غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب للسفاريني 1/325 . ([13]) متفق عليه: صحيح البخاري (4983)، وصحيح مسلم (1866)، واللفظ للبخاري . ([14])فتح الباري 8/636 . ([15])شرح النووي على مسلم 13/10 . ([16])سنن الترمذي (1597)، وسنن النسائي (4181)، وسنن ابن ماجة (2874)، وصحيح ابن حبان 10/417، وموطأ مالك 2/982، ومسند أحمد 6/357، والمعجم الكبير للطبراني 24/186، والدار قطني 4/146، 147، واللفظ لابن حبان . ([17]) الأدلة الشرعية على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية. للدكتور/ حسام الدين عفانة. ([18]) المعجم الكبير للطبراني 20/211، 212 . ([19]) الترغيب والترهيب 3/26 ، ولم أقف عليه في السنن الكبرى ولا في شعب الإيمان من كتب البيهقي . ([20]) مجمع الزوائد 4/326 . ([21])متفق عليه: صحيح البخاري (5889)، وصحيح مسلم (2657)، واللفظ له . ([22])شرح النووي على مسلم 16/206 . ([23])الأذكار صـ 266 . ([24])أصول الفقه للشيخ محمد أبي النور زهير - رحمه الله تعالى- 4/ 259، 260 . ([25])نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6/195 . ([26]) فتاوى معاصرة 2/291، وما بعدها، بتصرف . ([27])المعجم الكبير للطبراني في 19/70، 71 . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/126): "رجاله رجال الصحيح" . ([28])المستدرك على الصحيحين للحاكم 4/41، والمعجم الكبير للطبراني 24/306، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/102): "رواه البزار والطبراني في الأوسط، ورجال البزار رجال الصحيح". ([29]) صحيح ابن حبان 7/313 ، ومسند البزار 1/374 . ([30]) صحيح البخاري (4610) . ([31]) فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/ 636، 637 . ([32]) مسند أحمد 6/408 . ([33]) سنن أبي داود (4165) . ([34]) تفسير القرآن العظيم 8/99، وهو شاهد للحديث الذي قبله، وهذا الأثر رواه أيضًا أبو يعلى في مسنده (8/194)، وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد: "وفيه من لم أعرفهن" 6/37 . ([35]) سنن الترمذي (12)، وسنن النسائي (29) . ([36]) متفق عليه: صحيح البخاري (222)، وصحيح مسلم (273)، والسباطة: موضع يلقى فيه الكناسة والقمامة والتراب ونحوهما تكون بفناء الدور مرفقا لأهلها . ([37]) المصباح المنير للفيومي مادة (خيط) صـ 186، وطلبة الطلبة للنسفي مادة (وبر) صـ 84. ([38])تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/314 ، صحيح البخاري 5/1962 . ([39]) سنن أبي داود (2135)، ومسند أحمد 6/107 . ([40])المستدرك على الصحيحين للحاكم 1/228، والسنن الكبرى للبيهقي 7/300 . ([41])المستدرك على الصحيحين للحاكم 1/228، جامع البيان لابن جرير الطبري 8/393 . ([42]) المستدرك على الصحيحين للحاكم 1/228، 229 . ([43]) مجموع الفتاوى 21/233، 234 . ([44]) المرجع السابق 21/237 . ([45]) صحيح البخاري (5724) . ([46]) مسند أحمد 3/174 . ([47])فتح الباري شرح صحيح البخاري 10/490 بتصرف . ([48])متفق عليه: صحيح البخاري (2636)، (6600)، صحيح مسلم (1912) . ([49]) فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/77: 79 بتصرف . ([50]) فتاوى معاصرة 2/301، 302 . ([51]) حاشية العلامة الباجوري على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع 1/41 .