حكم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية مذهب المالكية
ذهب المالكية إلى تحريم مصافحة المرأة الأجنبيّة سواء كانت بشهوة أو بغيرها، وسواء كانت شابة أو عجوزًا؛ أخذًا بعموم الأدلة المثبتة للتحريم. ففي الشرح الصغير للشيخ الدردير مع حاشيته للعلامة الصاوي: "(ولا تجوز مصافحة الرجل المرأة)، أي: الأجنبية، (ولو مُتَجالَّة; لأن المباح الرؤية فقط)، وإنما المستحسن المصافحة بين المرأتين لا بين رجل وامرأة أجنبية"([9]). مذهب الشافعية: المفهوم من كلام السادة الشافعية عدم جواز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية إلا بشرطين: أمن الفتنة، ووجود حائل إذا دعت الحاجة. ففي المنهاج وشرحه للرملي: "ويجوز للرجل دلك فخذ الرجل بشرط حائل وأمن فتنة، وأُخِذ منه حِلُّ مصافحة الأجنبية مع ذينك; وأفهم تخصيصُه الحل معهما بالمصافحة حرمةَ مس غير وجهها وكفيها من وراء حائل ولو مع أمن الفتنة وعدم الشهوة, ووَجْهُه أنه مَظِنَّة لأحدهما كالنظر وحينئذ فيلحق بها الأمرد في ذلك, ويؤيده إطلاقهم حرمة معانقته الشاملة لكونها من وراء حائل"([10]). وفي حاشيتي الشرواني والعبادي على التحفة عند قول المصنف: (وأخذ منه حل مصافحة الأجنبية مع ذينك): "ينبغي تقييد كل من المأخوذ والمأخوذ منه بالحاجة"([11]). فمقصد المنع من المصافحة – عند السادة الشافعية - هو حسم أسباب الشهوة الممنوعة وقطع مظانها، وهذان الشرطان المذكوران يحققان هذا المقصد، فمن أهم أسباب حصول الشهوة تلاقي البشرتين بين الرجل والمرأة، والحائل يمنع من هذا التلاقي فيقطع هذا السبب. وكذلك إن وجد الحائل وخيفت الفتنة بأن يتلذذ من يصافح بيد المصافَح مثلا، فإنه ينبغي حسم هذه المادة أيضًا، فيشترط أمن الفتنة عند المصافحة، ومن هنا جاء اشتراط هذين الشرطين. مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة إلى عدم جواز مصافحة المرأة الأجنبية الشابة، أما العجوز فتجوز مصافحتها، وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد بالكراهة مطلقًا. ففي الإقناع وشرحه للبهوتي: "(ولا تجوز مصافحة المرأة الأجنبية الشابة)؛ لأنها شر من النظر, أما العجوز فللرجل مصافحتها على ما ذكره في الفصول والرعاية، وأطلق في رواية ابن منصور: تكره مصافحة النساء، قال محمد بن عبد الله بن مهران: سئل أبو عبد الله عن الرجل يصافح المرأة قال: لا, وشدد فيه جدًا قلت: فيصافحها بثوبه، قال: لا، قال رجل: فإن كان ذا رحم قال: لا، قلت: ابنته، قال: إذا كانت ابنته فلا بأس، والتحريم مطلقًا اختيار الشيخ تقي الدين، ويتوجه التفصيل بين المحرم وغيره, فأمَّـا الوالد فيجـوز - قاله في الآداب -"([12]). وما نقلناه عن المذاهب الأربعة نلاحظ منه ما يلي: أولا: أن جمهورهم -عدا الشافعية- لا يُجوِّز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية إذا كانا شابين، أما الشافعية فقد أجازوها بشرطين: أمن الفتنة، ووجود حائل إذا دعت الحاجة. ثانيًا: أن جمهورهم – عدا المالكية - يُجوِّز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية إذا كانت عجوزًا لا تُشتهى. ثالثًا: هناك رواية عن الإمام أحمد بن حنبل تقول بالكراهة مطلقًا. أدلة المانعين: ويستدل للمانعين من المصافحة - قديمًا وحديثًا - بما يلي: 1- امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء حال المبايعة، وفي هذا أحاديث: فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى آخر الآية [الممتحنة: 10]. قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقن فقد بايعتكن). لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه بايعهن بالكلام، والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء إلا بما أمره الله يقول لهن إذا أخذ عليهن: (قد بايعتكن) كلامًا([13]). قال الحافظ بن حجر: "قوله (قد بايعتك كلامًا) أن يقول ذلك كلامًا فقط لا مصافحة باليد، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة"([14]). وقال الإمام النووي: "قولها: (والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام) فيه أن بيعة النساء بالكلام من غير أخذ كف، وفيه أن بيعة الرجال بأخذ الكف مع الكلام، وفيه أن كلام الأجنبية يباح سماعه، وأن صوتها ليس بعورة، وأنه لا يلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة كتطبيب وفصد"([15]). وعن أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة يبايعنه فقلن: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئًا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيما استطعتن وأطقتن"، قالت: فقلت: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أصافح النساء إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة أو مثل قولي لامرأة واحدة"([16]). وعلق بعض الباحثين المعاصرين على أحاديث البيعة هذه بقوله: وهذه الأحاديث تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة وهي نص صريح في ذلك، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة فمن باب أولى أنه لم يصافح النساء في غير البيعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم مع عصمته ترك مصافحة النساء ، فعلينا أن نترك ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أسوتنا وقدوتنا ([17]). 2- ما رواه الطبراني عن معقل بن يسار يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له"، وفي لفظ آخر عنده: "لأن يطعن في رأس رجل بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له([18]). قال المنذري: رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح([19])، وقال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح([20]). 3- عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه"([21]). يقول الإمام النووي: "معنى الحديث: أن ابن آدم قُدِّر عليه نصيب من الزنى، فمنهم من يكون زناه حقيقيًّا بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه مجازًا بالنظر الحرام، أو الاستماع إلى الزنى وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده أو يُقَبِّلها، أو بالمشي بالرجل إلى الزنى، أو النظر، أو اللمس، أو الحديث الحرام مع أجنبية، ونحو ذلك، أو بالفكر بالقلب، فكل هذه أنواع من الزنى المجازي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه معناه: أنه قد يحقق الزنى بالفرج وقد لا يحققه بأن لا يولج الفرج في الفرج وإن قارب ذلك، والله أعلم.أهـ ثم نقل قول ابن عباس في رواية أخرى في الصحيحين: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة – أي بما في الحديث من النظر واللمس ونحوهما، وبين تفسيره للمم بذلك فقال: "فمعناه: تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ}[النجم: 32]، ومعنى الآية والله أعلم: الذين يجتنبون المعاصي غير اللمم يغفر لهم اللمم، كما في قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء: 31]، فمعنى الآيتين: أن اجتناب الكبائر يسقط الصغائر، وهي: اللمم، وفسره ابن عباس بما في هذا الحديث من النظر واللمس ونحوهما، وهو كما قال، هذا هو الصحيح في تفسير اللمم"([22]). 4- أن مصافحة الأجنبية ذريعة إلى الافتتان بها: فمن غير المقبول أن يُحَرَّم الشارع شيئًا، ثم يجعل الأسباب المؤدية إليه والمغرية به مباحة، ولا يرتاب أحد سَوِيّ في أن لمس الرجل شيئًا من بدن الأجنبية كما هو الحال في المصافحة ذريعة إلى الافتتان بها، وبما أن المصافحة كذلك فإنها تَحْرُم؛ لأنها مقدمة ووسيلة للافتتان بالمرأة. 5- أن الإسلام قد حرَّم النظر إلى الأجنبية بغير سبب مشروع، فمن باب أولى اللمس؛ لأن النظر أقل من اللمس، واللمس أعظم أثرًا في النفس من مجرد النظر، فاللمس فيه بعث للشهوة وتحريكها فوق ما في النظر. قال الإمام النووي: " قال أصحابنا: كل من حرم النظر إليه حرم مسه، بل المس أشد، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها، وفي حال البيع والشراء والأخذ والعطاء ونحو ذلك، ولا يجوز مسها في شيء من ذلك"([23]). إذن فقياس منع اللمس على منع النظر من باب قياس الأولى وقياس الأولى هو: ما كان الفرع فيه أولى بالحكم من الأصل؛ لقوة العلة فيه، مثل: قياس الضرب على التأفيف، بجامع الإيذاء، فإن الضرب أولى بالتحريم من التأفيف؛ لشدة الإيذاء ([24])، واللمس أبلغ من النظر قطعًا، يقول الإمام الرملي الشافعي في شرحه للمنهاج: "(ومتى حرم النظر حرم المس); لأنه أبلغ في إثارة الشهوة إذ لو أنزل به أفطر, بخلاف ما لو نظر فأنزل فإنه لا يفطر"([25]). رأي الدكتور القرضاوي ذهب العلامة الدكتور يوسف القرضاوي إلى القول بأنه ليس هناك دليل مقنع منصوص عليه يدل على تحريم المصافحة إذا لم تكن هناك شهوة، وأن أقوى ما يُستدل به هنا، هو سد الذريعة إلى الفتنة، وهذا مقبول من غير شك عند تحرك الشهوة، أو خوف الفتنة بوجود أماراتها، ولكن عند الأمن من ذلك وهذا يتحقق في أحيان كثيرة ما وجه التحريم؟ ([26]) وناقش بعض ما يستدل به على المنع كالاستدلال بترك النبي صلى الله عليه وسلم للمصافحة حال البيعة على تركه لها في جميع أحواله، ومن ثم منعها مطلقًا، بأن المقرر أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لأمر من الأمور لا يدل بالضرورة على تحريمه.. فقد يتركه لأنه حرام، وقد يتركه لأنه مكروه، وقد يتركه لأنه خلاف الأولى، وقد يتركه لمجرد أنه لا يميل إليه، كتركه أكل الضب مع أنه مباح. ويقوى كلام الشيخ القرضاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: "إني لا أقبل هدية مشرك"([27]). لكنه قبلها من المشرك في موضع آخر، فقد قبلها من المقوقس ملك القبط حيث أهدى إليه جاريتين منهما مارية القبطية أم ابنه إبراهيم بالإضافة إلى بغلة([28])، ومن ثم فإنه تصريحه صلى الله عليه وسلم بعدم قبول هدية المشرك محمول على حالة معينة؛ بدليل وردود المعارض، فكذلك ما نحن بصدده من قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أصافح النساء". فمجرد الترك لا يقتضي حرمة بمفرده، ولابد معه من دليل آخر، وليُراجع في هذا رسالة العلامة الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري "حسن التفهم والدرك لمسألة الترك" ففيها تفصيل الكلام عن هذا الأمر. وقال أيضًا: إن ترك مصافحته صلى الله عليه وسلم للنساء في المبايعة ليست موضع اتفاق، فقد جاء عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها ما يدل على المصافحة في البيعة، خلافًا لما صح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حيث أنكرت ذلك وأقسمت على نفيه. فقد روي ابن حبان، والبزار، من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة، قالت: فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: "اللهم اشهد"([29]). وكذا في صحيح البخاري عن أم عطية رضي الله عنها قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا: {أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا}. ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها فقالت: أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها، فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فانطلقت ورجعت فبايعها([30])، فإن جملة: "فقبضت امرأة يدها" تُشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن. قال الحافظ في الفتح: ويمكن الجواب عن الأول: بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقـوع المبايعة وإن لم تقع مصافحة.. وعـن الثاني: بأن المراد بقبض اليد: التأخـر عن القبول.. أو كانت المبايعة تقع بحائل، فقد روى أبو داود في المراسيل عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه على يده، وقال: (لا أصافح النساء) وفي مغازي ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم كان يغمس يده في إناء وتغمس المرأة يدها معه، وقال: ويحتمل التعدد([31]). ومعنى ذلك: أن المبايعة وقعت أكثر من مرة، منها ما لم يمس فيها يد امرأة قط لا بحائل ولا بغيره إنما يبايع بالكلام فقط، وهو ما أخبرت به عائشة.. ومنها ما صافح فيه النساء بحائل، وهو ما رواه الشعبي.. ومنها: الصورة التي ذكرها ابن إسحاق من الغمس في الإناء، والصورة التي يدل عليها كلام أم عطية من المصافحة المباشرة، خاصة إذا حمل اللفظ على الحقيقة، ولم يحمل على أنه مجاز عن تأخر القبول، ومما يعضد هذا رواية الإمام أحمد في المسند، وفيها زيادة، فعن أم عطية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على النساء فيما أخذ أن لا ينحن، فقالت امرأة: يا رسول الله إن امرأة أسعدتني أفلا أسعدها، فقبضت يدها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فلم يبايعها([32])، ومما يؤيد هذا ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن هند بنت عتبة قالت: يا نبي الله! بايعني؟ فنظر إلى يدها فقال: "لا أبايعك حتى تغيري كفيك كأنهما كفا سبع"([33])، ويعضده أيضًا ما ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم أن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه، فنظر إلى يدها فقال: "اذهبي فغيري يدك"، فذهبت فغيرتها بحناء ثم جاءت فقال: "أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئًا"، فبايعته وفي يدها سواران من ذهب، فقالت: ما تقول في هذين السوراين؟ فقال: "جزئين من نار جهنم"([34]). فالإرشاد إلى تغيير اليد بالحناء قد يومئ إلى احتمالية المصافحة. ومما يرجح احتمال التعدد: أن عائشة تتحدث عن بيعة المؤمنات المهاجرات بعد صلح الحديبية، أما أم عطية فتتحدث فيما يظهر عما هو أعم من ذلك وأشمل لبيعة النساء المؤمنات بصفة عامة، ومنهن أنصاريات كأم عطية راوية الحديث.. ولهذا ترجم البخاري لحديث عائشة تحت عنوان باب: (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات)، ولحديث أم عطية باب: (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك). واُضيف فأقول: إن المدقق في هذه الأحاديث (أحاديث البيعة: كحديثي عائشة وأم عطية) يرى أنها مجرد وصف للواقع، فيُسْتَشَف منها أنها لا تصلح أن تكون مستندًا قويًّا قطعيًّا لمحرمي مصافحة النساء؛ لكون أم المؤمنين تنفي المصافحة ولا تجرمها، فامتناعُهُ صلى الله عليه وسلم المطلقُ عن مصافحة النساء، على فرض التسليم بذلك، لا يدل على التحريم. كما أن أم المؤمنين لم تصف انتهاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الفعل بوصف يضفي عليه صفة الانتهاء عن المحرم، أي أن الرواية لم ترد فيها قرينة مقال (كقولها حاشا رسول الله أو معاذ الله أن يفعل كذا) أو قرينة حال (كغضبٍ من جانب أم المؤمنين) تدل أو توحي على الأقل بحرمة الفعل الذي انتهى عنه نبينا المعصوم صلى الله عليه وسلم. وإنما كان روايتها منصبة على نفي أمر حسب علمها، فنفيها رضي الله عنها لا يدل على ثبوت الحرمة فضلا أن يدل على عدم الوقوع، بل المحتمل وقوع المصافحة منه صلى الله عليه وسلم، كما مر معنا في حديث أم عطية عند البخاري وأحمد، فكلٌّ حدَّث بما رأى أو علم، فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نفت مثلا تبول النبي صلى الله عليه وسلم قائماً – كما في السنن والمسند - فقالت: من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائمًا فلا تصدقوه؛ ما كان يبول إلا قاعدًا([35]). لكن جاء في الصحيح وغيره عن حذيفة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائمًا ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ([36])، فالواقع أن كلا من السيدة عائشة وحذيفة أخبر بما رأى وعلم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تعارض بين الحديثين. والمقصود من نقل هذا كله: أن ما اعتمد عليه الكثيرون في تحريم المصافحة من ترك النبي صلى الله عليه وسلم لها في بيعة النساء، ليس قطعي الدلالة على الدعوى، ومن ثم فهو ليس موضع اتفاق، بل ساغ فيه الخلاف الذي ذكرناه. - أما حديث: "لأن يطعن في رأس أحدكم بِمخْيَط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له". فقال الشيخ القرضاوي: ومما استُدل به على تحريم مصافحة المرأة ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يطعن في رأس أحدكم بِمخْيَط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له". والمِخْيَط: ما يُخَاطُ به كالإبرة ونحوها([37]). ويلاحظ على الاستدلال بهذا الحديث ما يلي: 1- أن أئمة الحديث لم يصرحوا بصحته، واكتفى مثل المنذري أو الهيثمي أن يقول: رجاله ثقات أو رجال الصحيح.. وهذه الكلمة وحدها لا تكفي لإثبات صحة الحديث لاحتمال أن يكون فيه انقطاع، أو علَّة خفية، ولهذا لم يخرجه أحد من أصحاب الدواوين المشهورة، كما لم يستدل به أحد من الفقهاء في الأزمنة الأولى على تحريم المصافحة ونحوه. 2- على فرض تسليمنا بصحة الحديث، وإمكان أخذ التحريم من مثله، نجد أن دلالة الحديث على الحكم المستدل عليه غير واضحة؛ فكلمة "يمس امرأة لا تحل له" لا تعني مجرد لمس البشرة للبشرة، بدون شهوة، كما يحدث في المصافحة العادية.. بل كلمة "المس" حسب استعمالها في النصوص الشرعية من القرآن والسنة تعني أحد أمرين:- (1) أنها كناية عن الصلة الجنسية "الجماع" كما جاء ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء :43] أنه قال: اللمس والملامسة والمس في القرآن كناية عن الجماع([38]).. واستقراء الآيات التي جاء فيها المس يدل على ذلك بجلاء، كقوله تعـالى على لسان مريم: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}[آل عمران: 47]. وقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ}[البقرة: 237]. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدنو من نسائه من غير مسيس([39]). (2) أنها تعني ما دون الجماع من القبلة والعناق والمباشرة ونحو ذلك مما هو مقدمات الجماع، وهذا ما جاء عن بعض السلف في تفسير الملامسة: قال الحاكم في المستدرك: "قد اتفق البخاري ومسلم على إخراج أحاديث متفرقة في المسندين الصحيحين يستدل بها على أن اللمس ما دون الجماع. - منها: حديث أبي هريرة: "فاليد زناها اللمس". - وحديث ابن عباس: "لعلك مسست". - وحديث ابن مسعود: "وأقم الصلاة طرفي النهار..." (يشير إلى ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعود، وفي بعض رواياته: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه أصاب من امرأة، إما قبلة أو مسًّا بيده، أو شيئًا. كأنه يسأل عن كفارتها، فأنزل الله عز وجل.. يعني آية: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)[هود: 114]. قال: وقد بقى عليهما أحاديث صحيحة في التفسير وغيره..منها:- - عن عائشة قالت: "ما كان يوم أو قَلَّ يوم إلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا جميعًا - تعني نساءه - فيقبل ويلمس ما دون الوقاع، فإذا جاء إلى التي هي يومها ثبت عندها"([40]). - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في معنى قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء: 43] قال: اللمس مادون الجماع، وقال: القبلة من اللمس، وفيها الوضوء([41]). - وعن عمر قال: "إن القبلة من اللمس فتوضئوا منها"([42]). ومن هنا كان مذهب مالك، وظاهر مذهب أحمد: أن لمس المرأة الذي ينقض الوضوء هو ما كان بشهوة، وبه فسروا قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}. ولهذا ضعف شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه قول من فسروا الملامسة أو اللمس في الآية بمجرد مس البشرة ولو بلا شهوة. ومما قاله في ذلك:- "فأما تعليق النقض بمجرد اللمس، فهذا خلاف الأصول، وخلاف إجماع الصحابة وخلاف الآثار، وليس مع قائله نص ولا قياس. فإن كان اللمس في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} إذا أريد به اللمس باليد والقبلة ونحو ذلك كما قاله ابن عمر وغيره فقد علم أنه حيث ذكر ذلك في الكتاب والسنة، فإنما يراد به ما كان لشهوة، مثل قوله في آية الاعتكاف :(ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) ومباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه، بخلاف المباشرة لشهوة. وكذلك قوله: (ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وقوله: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن)، فإنه لو مسها مسيسًا خاليًا من غير شهوة لم يجب به عدة، ولا يستقر به مهر، ولا تنتشر به حرمة المصاهرة باتفاق العلماء. فمن زعم أن قوله: (أو لامستم النساء) يتناول اللمس وإن لم يكن لشهوة، فقد خرج عن اللغة التي جاء بها القرآن، بل وعن لغة الناس في عرفهم، فإنه إذا ذكر المس الذي يقرن فيه بين الرجل والمرأة علم أنه مس الشهوة، كما أنه إذا ذكر الوطء المقرون بين الرجل والمرأة، علم أنه الوطء بالفرج لا بالقدم"([43]). وذكر ابن تيمية في موضع آخر: أن الصحابة تنازعوا في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء: 43]، فكان ابن عباس وطائفة يقولون: الجماع، ويقولون: الله حيي كريم، يُكَنِّي بما شاء عما شاء.قال: وهذا أصح القولين. وقد تنازع العرب والموالي في معنى اللمس: هل المراد به الجماع أو ما دونه؟ فقالت العرب: هو الجماع، وقالت الموالي: هو ما دونه، وتحاكموا إلى ابن عباس فصوب العرب، وخطأ الموالي([44]). والمقصود من نقل هذا الكلام كله أن نعلم أن كلمة "المس" أو "اللمس" حين تستعمل من الرجل للمرأة، لا يراد بها مجـرد وضـع البشـرة على البشرة، بل المراد بها إما الجماع، وإما مقدماته من التقبيل والعناق، ونحـو ذلك من كل مس تصحبه الشهـوة والتلذذ. على أننا لو نظرنا فيما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن فيه ما قد يدل على أن مجرد لمس اليد لليد بين الرجل والمرأة بلا شهوة ولا خشية فتنة، غير ممنوع في نفسه، بل يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله، والأصل في فعله أنه للتشريع والاقتداء: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21]. فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت"([45]). وفي رواية للإمام أحمد عن أنس أيضًا قال: "إن كانت الوليدة يعني الأمة من ولائد أهل المدينة لتجيء، فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت"([46]). قال الحافظ في الفتح: "والمقصود من الأخذ باليد لازمه، وهو الرفق والانقياد، وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ "الإماء" أي أمة كانت، وبقوله "حيث شاءت" أي مكان من الأمكنة، والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة، والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة لساعد على ذلك. وهذا دليل على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم"([47]). وما ذكره الحافظ رحمه الله مُسَلَّمٌ في جملته، ولكن صرفه معنى الأخذ باليد عن ظاهره إلى لازمه وهو الرفق والانقياد غير مسلم؛ لأنه قد يكون الظاهر واللازم مرادان معًا.. والأصل في الكلام أن يحمل على ظاهره، إلا أن يوجد دليل أو قرينة معينة تصرفه عن هذا الظاهر، وفي رواية الإمام أحمد: "فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت"، ففي هذا إشارة إلى احتمال إرادة الظاهر. بل وأكثر من ذلك وأبلغ منه ما جاء في الصحيحين والسنن عن أنس أيضًا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من القيلولة عند خالته خالة أنس أم حرام بنت ملحـان زوج عبـادة بن الصامت، ونام عندها، واضعًا رأسه في حجرها وجعلت تفلي رأسه..."إلخ ما جاء في الحديث([48]). وقد ذكر الحافظ ابن حجر في بيان ما يؤخذ من الحديث، قال: "وفيه جواز قائلة الضيف في غير بيته بشرطه كالإذن وأمن الفتنة..، وجواز خدمة المرأة الأجنبية للضيف بإطعامه والتمهيد له ونحو ذلك. وفيه خدمة المرأة الضيف بتفلية رأسه وقد أشكل هذا على جماعة، فقال ابن عبد البر: أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو أختها أم سليم، فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة، فلذلك كان ينام عندها، وتنال منه ما يجوز للمحرم أن يناله من محارمه.. ثم ساق بسنده ما يشير إلى أن أم حرام كانت منه ذات محرم من قبل خالاته، لأن أم عبد المطلب جده كانت من بني النجار... إلخ. وقال غيره: بل كان النبي صلى الله عليه وسلم معصومًا، يملك إربه عن زوجته فكيف عن غيرها مما هو المنزه عنه؟ وهو المبرأ عن كل فعل قبيح وقول رفث، فيكون ذلك من خصائصه. ورَدَّ ذلك القاضي عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، وثبوت العصمة مُسَلَّم لكن الأصل عدم الخصوصية، وجواز الاقتداء به في أفعاله، حتى يقوم على الخصوصية دليل. وبالغ الحافظ الدمياطي في الرد على من قال بالاحتمال الأول، وهو ادعاء المحرمية، فقال: ذهل كل من زعم أن أم حرام إحدى خالات النبي -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة أو من النسب، واللاتي أرضعنه معلومات، ليس فيهن أحد من الأنصار ألبتة، سوى أم عبد المطلب، وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وأم حرام هي بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر المذكور.. فلا تجتمع أم حرام وسلمى إلا في عامر بن غنم جدهما الأعلى.. وهذه خئولة لا تثبت بها محرمية؛ لأنها خئولة مجازية، وهي كقوله -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص :(هذا خالي)، لكونه من بني زهرة، وهم أقارب أمه آمنـة، وليس سـعد أخًا لآمنة، لا من النسب، ولا من الرضـاعة، ثم قال: وإذا تقرر هذا فقد ثبت في الصحيح: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا على أم سليم، فقيل له أي سـئل في ذلك فقال: "أرحمها، قتل أخوها معي". يعني حرام بن ملحان.. وكان قد قتل يوم بئر معونة.. وإذا كان هذا الحديث قد خص أم سليم بالاستثناء، فمثلها أم حرام المذكورة هنا.. فهما أختان وكانتا في دار واحدة، كل واحدة منهما في بيت من تلك الدار، وحرام بن ملحان أخوهما معًا، فالعلة مشتركة فيهما كما ذكر الحافظ ابن حجر.. وقـد انضاف إلى العلة المـذكورة أن أم سليم هي أم أنس خـادم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد جرت العادة بمخالطة المخدوم خادمه، وأهل خادمه، ورفع الحشمة التي تقع بين الأجانب عنهم. ثم قال الدمياطي: على أنه ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بأم حرام، ولعل ذلك كان مع ولد، أو خادم، أو زوج، أو تابع. قال ابن حجر: وهو احتمال قوي، لكنه لا يدفع الإشكال من أصله، لبقاء الملامسة في تفلية الرأس، وكذا النوم في الحجر. قال الحافظ: وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية، ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل لأن الدليل على ذلك واضح والله أعلم"([49]). يقول الشيخ القرضاوي: والذي يطمئن إليه القلب من هذه الروايات أن مجرد الملامسة ليس حرامًا.. فإذا وجدت أسباب الخلطة كما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأم حرام وأم سليم، وأمنت الفتنة من الجانبين، فلا بأس بالمصافحة عند الحاجة كمثل القادم من سفر، والقريب إذا زار قريبة له أو زارته، والذي أحب أن أؤكده في ختام هذا البحث أمران: الأول: أن المصافحة إنما تجوز عند عدم الشهوة، وأمن الفتنة، فإذا خيفت الفتنة على أحد الطرفين، أو وجدت الشهوة والتلذذ من أحدهما حرمت المصافحة بلا شك. بل لو فقد هذان الشرطان عدم الشهوة وأمن الفتنة بين الرجل ومحارمه مثل خالته، أو عمته، أو أخته من الرضاع، أو بنت امرأته، أو زوجة أبيه، أو أم امرأته، أو غير ذلك، لكانت المصافحة حينئذ حرامًا، بل لو فقد الشرطان بين الرجل وبين صبي أمرد حرمت مصافحته أيضًا، وربما كان في بعض البيئات، ولدى بعض الناس، أشد خطرًا من الأنثى. الثاني: ينبغي الاقتصار في المصافحة على موضع الحاجة، مثل ما جاء في السؤال كالأقارب والأصهـار الذين بينهم خلطـة وصلة قوية، ولا يحسـن التوسع في ذلك، سدًّا للذريعة، وبعدًا عن الشبهة، وأخذًا بالأحوط، واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأفضل للمسلم المتدين، والمسلمة المتدينة ألا يبدأ أحدهما بالمصافحة، ولكن إذا صوفح صافح. وإنما قررنا الحكم ليعمل به من يحتاج إليه دون أن يشعر أنه فرَّط في دينه، ولا ينكر عليه من رآه يفعل ذلك ما دام أمرًا قابلاً للاجتهاد، والله أعلم([50]). خلاصة بحث الشيخ القرضاوي مما سبق يتبين لنا أن القول بحرمة المصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية هو قول جمهور الفقهاء، والقول بالكراهة قول مروي عن الإمام أحمد، ويرى بعض العلماء المعاصرين الجواز مطلقًا عند أمن الشهوة، ولكل واحد من أصحاب هذه الآراء مستنده الشرعي. وقد نص العلماء على أنه يجوز لمن خاف من الوقوع في المحرَّم أن يقلد من أجازه من العلماء تخلصًا من الحرمة، فهناك دائرتان، الأولى: هي دائرة المحرم قطعي التحريم، والدائرة الثانية: هي دائرة المحرم ظني التحريم الذي قد تجاذبته أنظار العلماء؛ لوقوع الظن في دليل التحريم سواء من ناحية السند أو الدلالة، فالدائرة الأولى ليست هي ما نعني، وإنما ما نعنيه هي الدائرة الثانية، فقضية التحريم في حق من يقلِّد القائل بها لا تعدو أن تكون من قبيل الظن، وهذا الظن مقابل بظن آخر في القول بالجواز، ومن هنا جاء القول بجواز تقليد رأي المجتهد القائل بالجواز، لأن المقلِّد لا يعدو أن يكون قد انتقل من ظن إلى ظن، والقولان -سواء المحرم أو المبيح- تحت مظلة الشريعة لا يخرج أحدهما عنها ولا يمكن لأحد أن يقطع بأن أحدهما هو حكم الله في نفس الأمر. وممن أشار إلى شيء من هذا شيخ الإسلام العلامة البيجوري في حاشيته الفقهية -عند قول الشارح: (ولا يجوز في غير ضرورة لرجل أو امرأة استعمال شيء من أواني الذهب والفضة)- حيث قال: "عده البلقيني وكذا الدميري من الكبائر، ونقل الأذرعي عن الجمهور أنه من الصغائر وهو المعتمد، وقال داود الظاهري: بكراهة استعمال أواني الذهب والفضة كراهة تنزيهية، وهو قول للشافعي في القديم، وقيل الحرمة مختصة بالأكل والشرب دون غيرهما؛ أخذًا بظاهر الحديث، وهو: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما"، وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة، وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن من ابتلي بشيء من ذلك كما يقع كثيرًا تقليد ما تقدم؛ ليتخلص من الحرمة"اهـ ([51]). وليس معنى قولنا بجواز تقليد المبيح أننا نجيز لأحد أن يخرج عن دائرة الشريعة بل المقصود بهذا هو تصحيح أفعال الناس ومعاملاتهم ما أمكن، ولأن يُقدمَ المرء على فعل شيء وله وجه يجيزه شرعًا خير له من أن تُغَلَّق أمامه كل الأبواب فلا يجد أمامه من سبيل إلا اقتحام المحرم، وقد كان له مندوحة بأن يقلد من أجاز. ومسألة المصافحة من هذا الباب فإذا انتفت الشهوة وأمنت الفتنة وأسقط في يد المرء بحيث أصبح تملصه منها مدعاة لإحراجه أو إحراج من يبتدئه بالمصافحة فله أن يوسع على نفسه بتقليد المجيز، ولا حرج عليه حينئذ ولا إثم. والله تعالى أعلى وأعلم ([1])الصحاح مادة (صفح) 1/383 . ([2])المصباح المنير مادة صفح ص342 . ([3])لسان العرب مادة (صفح) 7/356 . ([4])فتح الباري 11/54 . ([5])الموسوعة الفقهية الكويتية 19/267 . ([6])شرح النووي على مسلم 9 / 105 .. ([7]) صحيح مسلم (1445) ، (1447) . ([8])تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 6/18، قال الزيلعي في نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (6/128) عن الحديث المذكور: "غريب"، وكذلك قال عن الأثريين المرويين عن أبي بكر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما ، وقال الحافظ ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2/224) عن الحديث المذكور: "لم أجده"، وكذلك قال عن الأثريين المرويين عن أبي بكر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما . ([9])حاشية الصاوي على الشرح الصغير للشيخ الدردير 4/760 بتصرف ، والمرأة المُتَجالَّة: هي التي أَسَنَّت وكَبِرَتْ . لسان العرب لابن منظور مادة (جلل) 11/116 . ([10]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6/191، 192 . ([11]) حاشيتا الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج للرملي 7/198 . ([12])كشاف القناع عن متن الإقناع 2/154، 155 . مع الآداب الشرعية لابن مفلح 2/257، 258، و غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب للسفاريني 1/325 . ([13]) متفق عليه: صحيح البخاري (4983)، وصحيح مسلم (1866)، واللفظ للبخاري . ([14])فتح الباري 8/636 . ([15])شرح النووي على مسلم 13/10 . ([16])سنن الترمذي (1597)، وسنن النسائي (4181)، وسنن ابن ماجة (2874)، وصحيح ابن حبان 10/417، وموطأ مالك 2/982، ومسند أحمد 6/357، والمعجم الكبير للطبراني 24/186، والدار قطني 4/146، 147، واللفظ لابن حبان . ([17]) الأدلة الشرعية على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية. للدكتور/ حسام الدين عفانة. ([18]) المعجم الكبير للطبراني 20/211، 212 . ([19]) الترغيب والترهيب 3/26 ، ولم أقف عليه في السنن الكبرى ولا في شعب الإيمان من كتب البيهقي . ([20]) مجمع الزوائد 4/326 . ([21])متفق عليه: صحيح البخاري (5889)، وصحيح مسلم (2657)، واللفظ له . ([22])شرح النووي على مسلم 16/206 . ([23])الأذكار صـ 266 . ([24])أصول الفقه للشيخ محمد أبي النور زهير - رحمه الله تعالى- 4/ 259، 260 . ([25])نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6/195 . ([26]) فتاوى معاصرة 2/291، وما بعدها، بتصرف . ([27])المعجم الكبير للطبراني في 19/70، 71 . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/126): "رجاله رجال الصحيح" . ([28])المستدرك على الصحيحين للحاكم 4/41، والمعجم الكبير للطبراني 24/306، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/102): "رواه البزار والطبراني في الأوسط، ورجال البزار رجال الصحيح". ([29]) صحيح ابن حبان 7/313 ، ومسند البزار 1/374 . ([30]) صحيح البخاري (4610) . ([31]) فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/ 636، 637 . ([32]) مسند أحمد 6/408 . ([33]) سنن أبي داود (4165) . ([34]) تفسير القرآن العظيم 8/99، وهو شاهد للحديث الذي قبله، وهذا الأثر رواه أيضًا أبو يعلى في مسنده (8/194)، وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد: "وفيه من لم أعرفهن" 6/37 . ([35]) سنن الترمذي (12)، وسنن النسائي (29) . ([36]) متفق عليه: صحيح البخاري (222)، وصحيح مسلم (273)، والسباطة: موضع يلقى فيه الكناسة والقمامة والتراب ونحوهما تكون بفناء الدور مرفقا لأهلها . ([37]) المصباح المنير للفيومي مادة (خيط) صـ 186، وطلبة الطلبة للنسفي مادة (وبر) صـ 84. ([38])تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/314 ، صحيح البخاري 5/1962 . ([39]) سنن أبي داود (2135)، ومسند أحمد 6/107 . ([40])المستدرك على الصحيحين للحاكم 1/228، والسنن الكبرى للبيهقي 7/300 . ([41])المستدرك على الصحيحين للحاكم 1/228، جامع البيان لابن جرير الطبري 8/393 . ([42]) المستدرك على الصحيحين للحاكم 1/228، 229 . ([43]) مجموع الفتاوى 21/233، 234 . ([44]) المرجع السابق 21/237 . ([45]) صحيح البخاري (5724) . ([46]) مسند أحمد 3/174 . ([47])فتح الباري شرح صحيح البخاري 10/490 بتصرف . ([48])متفق عليه: صحيح البخاري (2636)، (6600)، صحيح مسلم (1912) . ([49]) فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/77: 79 بتصرف . ([50]) فتاوى معاصرة 2/301، 302 . ([51]) حاشية العلامة الباجوري على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع 1/41 .
No comments:
Post a Comment